بدأ رئيس محكمة جنايات القاهرة، المستشار عادل صدقي، في فبراير 1986، وقائع محاكمة أول إسرائيلي يضبط متلبساً بتهريب المخدرات إلى مصر، يوسف أمين طحان، الذي تم توقيفه أثناء محاولة دخوله الأراضي المصرية عبر مطار القاهرة الدولي، قادماً من الهند، وفي حوزته نحو كيلوغرام و28 غراماً من الهيروين، الآن أصبح «الثعبان» الإسرائيلي في مواجهة قضاته.

س: اسمك؟

Ad

ج: يوسف أمين طحان.

س: سنك؟

ج: 43 سنة.

س: عملك؟

ج: عامل ألومنيوم.

س: محل ميلادك؟

ج: باب الشعرية بالقاهرة.

س: جنسيتك؟

ج: إسرائيلي من أصل مصري، هاجرت من القاهرة إلى إسرائيل في عام 1963، وكنت في العشرين من عمري وقتها.

س: مأمور جمرك مطار القاهرة، يقول في محضر النيابة إنه ضبط في حوزتك مخدرات، أيه أقوالك؟

ج: حصل... كان معايا كيلو هيروين.

س: معاك... منين؟

ج: اشتريته من بومباي في الهند.

س: بكام؟

ج: بألفين و850 دولاراً.

س: وكم ثمنه في مصر؟

ج: نحو 40 ألف جنيه.

***

البحث عن محام

توالت أسئلة هيئة المحكمة واعترافات المتهم، وهو لم ينكر حرفاً مما سبق أن وجهته له المحكمة من اتهامات بناء على محاضر النيابة ومحاضر الضبط، ولم ينكر ما ذكره الشهود أمام القاضي أيضاً. وقف وكيل النيابة وممثل الاتهام، حسين التهامي، واصفاً المهرب الإسرائيلي بأنه «وباء وبلاء يستهدف هدم المجتمع المصري وتخريبه»، ومطالباً المحكمة بتوقيع أقسى عقوبة موجودة في القانون على المتهم، وهي الإعدام شنقاً.

وحينما جاء دور الدفاع عن المتهم، وقعت هيئة المحكمة في أزمة، فالمحامون المصريون رفضوا الدفاع عن الإسرائيلي طحان، ما هدد بعدم عدالة النظر في القضية أمام المحاكم، إذ مهما كنت تحمل من عداء للمتهم لا يمكن إلا أن توفر له جوا من عدالة المحاكمة، حتى إذا جاء الحكم عليه في ضوء أوراق القضية، يكون عنواناً وانتصارا للعدل والحقيقة، لذلك اضطرت المحكمة إلى ندب أحد المحامين وتكليفه بالدفاع عن المتهم.

لكن المحامي عمر حجاج، الذي كان حاضراً الجلسة بصفته ممثلاً عن نقابة المحامين المصرية، هبّ واقفاً وطلب من هيئة المحكمة قبول انضمامه إلى طلبات النيابة، بتوقيع عقوبة الإعدام على المتهم، ومقرراً أنه باسم «لجنة الحريات» في نقابة المحامين، يدفع ببطلان قبول وحضور أي محام مصري مع المتهم الصهيوني، لأن حضور المحامي يعد مخالفة صريحة لقرار مجلس نقابة المحامين، بعدم التعامل أو الدفاع عن العدو الإسرائيلي، أفراداً أو هيئات.

ولأن العدل قيمة مطلقة، رفضت المحكمة طلبات ممثل لجنة الحريات في نقابة المحامين، مؤكدة أن إجراءات المحاكمة لا تتم إلا بتوفير محام للمتهم، وهو ما تم فعلاً. لكن المحامي المنتدب للدفاع عن المتهم الإسرائيلي، فاجأ الجميع عندما قرر الاستغناء عن مناقشة الشهود في أقوالهم، واقتصرت مرافعته على ترديد جملة واحدة، «المطالبة باستعمال الرأفة مع المتهم»، لترفع بعدها الجلسة وتبدأ هيئة المحكمة المداولة قبل إصدار حكمها.

كانت الأجواء مشحونة في قاعة المحكمة، لذلك حاول المحامي المنتدب تبرئة ساحته من أي اتهام بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، إذ أكد للصحافيين الحاضرين لتغطية الحدث أنه لم يقبل تكليف المحكمة الموقرة بالدفاع عن المتهم الإسرائيلي يوسف طحان، إلا لاستكمال الشكل القانوني للمحاكمة، خصوصاً أن قانون الإجراءات الجنائية ينص صراحة على أن محكمة الجنايات، لا يصبح انعقادها صحيحاً في حكم القانون، إلا بوجود محام يتولى الدفاع عن المتهم، مهما كانت جنسية الأخيرة، وهو لا يعني، في رأي المحامي المنتدب، خروجاً على قرار مجلس نقابة المحامين، بعدم التعامل أو الدفاع عن الإسرائيليين أفراداً أو هيئات أمام المحاكم في داخل مصر وخارجها.

النطق بالحكم

صرخ فينا عم عبد اللطيف الحاجب قائلاً: محكمة.

تلا رئيس المحكمة المستشار عادل صدقي تفاصيل القضية وتحريات النيابة وشهادة الشهود، قبل أن يصدر قراره بالإعدام شنقاً على المتهم الإسرائيلي. وفي برودة شديدة، استقبل طحان خبر إعدامه كأنه يستمع إلى نبأ الحكم على شخص آخر غيره. لم ينطق بكلمة، لم يصرخ ويقول «أنا مظلوم». ظلت معالم وجه ثلجية، لا تعكس أي ردود فعل.

في غرفة المداولة، سألت المستشار عادل صدقي رئيس المحكمة، تفسيراً لما قاله لي يوسف طحان إنه «لن يعدم... حتى لو صدر الحكم بإعدامه»، فكان الرد التلقائي للمستشار صدقي أن نادى على رئيس طاقم الحراسة المرافق ليوسف طحان، المقدم جمال زكريا، وحذره «ثلاث مرات» من احتمال هروب المتهم، قبل إعدامه، مشدداً على ضرورة تعزيز إجراءات تأمين حراسة طحان أثناء نقله من المحكمة إلى سجنه.

صدقت نبوءة طحان وكسب الرهان غير المعلن معي. لم ينفذ فيه حكم الإعدام، رغم تصديق محكمة النقض على الحكم في 22 يناير 1987، لتجعل منه واجباً النفاذ. لكن طحان ظل يعيش حياة هادئة في سجون الاستئناف سنوات طويلة، حاولت أن أستكشف سبب عدم تنفيذ الحكم، ذهبت إلى مصلحة السجون، فطلبوا ان استحصل على إذن بالكلام من وزارة الداخلية، ذهبت إلى العلاقات العامة في وزارة الداخلية، فأحالوني إلى مكتب النائب العام، ذهبت إلى مكتب النائب العام، فقالوا لي إن مصلحة السجون هي التي تحدد موعد تنفيذ الحكم، وتخطرنا به، هكذا ضاعت الحقيقة ولم نعرف لماذا لم يتم تنفيذ حكم الإعدام على طحان، فيما جرت في النهر مياه كثيرة جذبت الأنظاا إلى مناطق وأحداث أخرى.

حادث مروع

كنت أظن أن قضية طحان انتهت بمجرد حصوله على حكم بالإعدام لكنني كنت واهماً. عادت القضية بكل تفاصيلها إلى عقلي مع نشر صحيفة «الجمهورية» في عددها بتاريخ 15 ديسمبر 1989، خبراً عن حادث مروع، كانت هي الصحيفة الوحيدة التي نشرته في بضعة أسطر في ركن منزو من صفحتها الأولى: «نجاة المستشار عادل صدقي رئيس محكمة جنايات القاهرة سابقاً، وشقيق الدكتور عاطف صدقي، رئيس مجلس الوزراء الحالي، إثر وقوع حادث تصادم بين سيارته وسيارة خاصة.

وقع الحادث ظهر أمس (الخميس) بتقاطع شارعي يوسف عباس، وخضر التوني بمدينة نصر (شرق القاهرة)، إلى نهاية تفاصيل الخبر».

انتهى الخبر لكن الأسئلة التي تفجرت في رأسي لم تنته، لم تقل صحيفة «الجمهورية»، إن هذا المستشار هو «القاضي» الذي قضى بإعدام مهرب المخدرات «الإسرائيلي» يوسف الطحان، الخبر كما هو واضح لم يذكر اسم صاحب السيارة التي صدمت سيارة صدقي، ولم يذكر أيضاً اسم الهيئة أو المحافظة التي يتبعها رقم السيارة التي صدمت شقيق رئيس مجلس الوزراء حينذاك، وعدم ذكر مثل هذه المعلومات قد لا يقدم أو يؤخر في بعض الأحوال. أما في حالتنا هذه فهو يفتح في العقل شارعاً مزدحماً بعلامات الدهشة والاستفهام، شارعاً مزدحماً بالألغاز الكثيرة التي ما زالت تتزايد يوماً بعد يوم حول حقيقة هذا المهرب «اللغز».

لم يعرف أحد من تسبب في حادث المستشار صدقي المروع، الذي كاد أن يذهب بحياته لولا أن تدخل القدر، لم نعرف لماذا لم ينفذ حكم الإعدام في المتهم الإسرائيلي، خصوصاً أن صحف القاهرة خرجت علينا بخبر في صباح 6 يوليو 1989، مفاده أن السلطات المصرية نفذت أول حكم بالإعدام في مهرب مخدرات باكستاني الجنسية واثنين من المهربين المصريين، لكن ظل طحان استثناء.

مع غياب الحقائق تحضر الإشاعات بقوة، فصحف تقول إن طحان هو في الحقيقة أحد رجال المخابرات الإسرائيلية، وأن القاهرة أبدلته سراً بأحد أبطال المقاومة الشعبية في العريش، هو سعد الرطيل الذي أفرجت عنه إسرائيل في 6 أغسطس 87 بعد 12 سنة من العذاب أمضاها في السجون الإسرائيلية، وصحف تقول إن يوسف الطحان لا يزال إلى الآن يقبع في أحد سجون القاهرة، وإن أجهزة الأمن المصرية أحبطت محاولة فاشلة أعدتها المخابرات الإسرائيلية لتهريبه من سجن الاستئناف. ورغم كثرة الفرضيات ظلت الحقيقة عالقة، لكن مفاجآت أخرى كانت في الطريق.

... يتبع

الموساد... أذرع أخطبوط
تأسس جهاز «الموساد» عام 1937 أي قبل أعوام من إنشاء الكيان الصهيوني الذي يسمى راهناً «إسرائيل»، وجاء تأسيسه مواكباً لقرار اتخذه الصهاينة في مدينة «بازل» السويسرية يوم الأحد 29 أغسطس 1897 أثناء اجتماع المؤتمر الصهيوني الأول برئاسة «تيودور هرتزل». وفي عام 1907، أنشأ الصهاينة منظمة «عسكرية» من اليهود الأوروبيين، سموها «بارجيورا». وفي عام 1920، تم تشكيل «الهاجاناه»، تلك المنظمة التي تشكل منها فيما بعد جهاز المخابرات الإسرائيلي الراهن المسمى اختصاراً بـ»الموساد». ففي عام 1937، أسست هذه المنظمة منظمة أخرى اسمها «موساد لي اليافي بيت»، أي «مكتب الهجرة»، ولاحظ أن اسمها الأول «موساد» هو الاسم الذي استعاره جهاز المخابرات الإسرائيلية عام 1951 ليكون اسماً له، حينما ظهر لأول مرة بشكل رسمي، وورث أيضاً شبكة جواسيسها، ونظراً إلى تعدد تنظيمات التجسس الإسرائيلية رأت القيادة الصهيونية أن تنشئ جهازاً خاصاً لتنسيق أنشطتها سمته «شيروت إسرائيل»، أي «في خدمة إسرائيل»، وتولى تأسيسه «روفين شيلوح» الذي رأس الموساد بعد تأسيسه رسمياً.

وجهاز «الموساد» يتولى مهام عدة، من بينها التجسس والاغتيالات والحصول على الأسلحة، وإثارة الفتن، والخطف، ونشر الأكاذيب، والإشاعات، والإيدز، والمخدرات، وغيرها من مهام قذرة. ويتكون «الموساد» من أقسام رئيسة عدة، لكل منها دور أو مهمة خاصة، وتتراوح مهام هذه الأقسام بين جمع المعلومات وتصنيفها، ودراسة هذه المعلومات وتقييمها، والمراقبة، فضلاً عن تجنيد العملاء، وتنفيذ العمليات الخارجية الخاصة، من قتل وتصفية وغيرها من جرائم منحطة، إضافة إلى قسم خاص بالتصوير والتزوير والشفرة وأجهزة الاتصال، فضلاً عن قسم خاص بالتدريب والتخطيط، ورفع كفاءة العاملين بالجهاز، ويضم جهاز «الموساد» قسماً لمكافحة التجسس والاختراق، ويعتبر قسم العمليات أكبر فروع «الموساد» ومهمته تنظيم نشاط وعمل الجواسيس المنتشرين حول العالم.

ثمة أيضاً وحدة خارجية أخرى تسمى «عل»، أي «رفيعة المستوى»، وهي تجمع المعلومات عن كل الدول العربية من داخل أميركا، بواسطة تعقب البعثات الدبلوماسية، وثمة كذلك لجنة خاصة «بالموساد» تجتمع أسبوعياً، يطلق عليها اختصاراً «وادات»، وهي لجنة تختص بالتنسيق بين فرق التجسس، خارج إسرائيل وداخلها، ورئيس «وادات» هو رئيس جهاز «الموساد». أما أعضاء لجنة «وادات» فهم مدير جهاز المخابرات العسكرية الذي يسمى «آمان»، ومدير جهاز الأمن الداخلي الذي يسمى «شيروت بيتاخون كليالت»، ويعرف اختصاراً «شين بيت» أو «شاباك»، ومدير مركز البحوث الاستراتيجية والتخطيط في وزارة الخارجية، المتخصص في التجسس الدبلوماسي، ومعهم أيضاً مدير قسم العمليات الخاصة لإدارة الشرطة «ماتام»، والمستشارون الشخصيون لرئيس الوزراء في الشؤون السياسية والعسكرية وشؤون المخابرات ومكافحة الإرهاب، وخلال هذا الاجتماع الأسبوعي المهم ترسم السياسة الأمنية لإسرائيل داخلياً وخارجياً.

ويضم الموساد شعبة بحوث تشمل خمسة أقسام و15 مكتباً لدراسات الدول العربية وبعض دول العالم الأخرى، وثمة اهتمام خاص من «الموساد» بالدول العربية عموماً، وبدول الجوار خصوصاً، وهي مصر وسورية ولبنان والأردن، ومعها السعودية والعراق والجزائر وليبيا وتونس. وتعتبر مصر بالنسبة إلى الموساد العدو الأول، لذلك يكثف نشاطه التجسسي ضدها، ويقول بعض التقارير إن عدد جواسيسه الذين تم تجنيدهم والدفع بهم نحو مصر بلغ نحو 46 جاسوساً، غالبيتهم إسرائيليون وأقلية من المصريين وجنسيات أخرى. كذلك تم ضبط أكثر من 52 شبكة تجسس إسرائيلية في مصر، خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة.

أما عن سبب تعدد الأجهزة الأمنية في إسرائيل فقد أرجعه زعيم منظمة «الأرجون» الإرهابية، مناحم بيجين، رئيس وزراء إسرائيل في ما بعد، والذي سجل في كتابه «التمرد» أن «سبب تعدد هذه المنظمات الصهيونية، هو انشقاق بعضها عن البعض الآخر، احتجاجاً على عدم قتل الفلسطينيين ونسف بيوتهم بالقسوة الكافية، لبث الرعب في قلوب بقية الفلسطينيين، ودفعهم إلى النزوح من قراهم هلعاً، فيسهل الاستيلاء على كل القرى والمدن الفلسطينية، في وقت قصير»

خطة إسرائيلية لاغتيال بوش
لم تتورع إسرائيل عن ارتكاب جميع الجرائم، حتى لو وصل الأمر إلى التضحية بأبرز حلفائها لأجل مصلحة الكيان الصهيوني، وهو ما كشفه الجاسوس الإسرائيلي السابق، فيكتور أوستروفسكي، في كتابه المعنون «الجانب الآخر من الخدعة»، بأن جهاز المخابرات الإسرائيلية، كان قد خطط لاغتيال الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الأب، أثناء حضوره مؤتمر مدريد للسلام في أكتوبر 1991، وخطط الموساد أيضاً لإلصاق تهمة اغتيال بوش بالفلسطينيين، ليس لنسف المؤتمر وتخريبه فحسب، وإنما أيضا لإثارة عداء كل فئات الشعب الأميركي ضد الفلسطينيين، وحصل الموساد على دعم قطاع عريض من الإسرائيليين غير الراغبين في السلام.

ووفقاً للخطة، كانت مجموعة العمليات «القذرة» في المخابرات الإسرائيلية والمسماة بفريق «كيدون» نجحت في تحديد ثلاثة فلسطينيين من المعروفين بنشاطهم ضد إسرائيل، واختطفتهم فعلاً من مخبأهم في بيروت وهم: محمد حسين، وبيضون سلامة، وحسين شاهين... وفي الوقت نفسه، أرسلت تهديدات بالقتل إلى الرئيس الأميركي السابق جورج بوش قبل أيام قليلة من انعقاد مؤتمر مدريد، وكانت خطة الموساد كما يقول أستروفسكي في كتابه تقضي بإحضار الفلسطينيين الثلاثة المختطفين إلى مدريد، ووضعهم بالقرب من الرئيس بوش ثم إطلاق الرصاص عليه بواسطة عناصر الاغتيال في الموساد، وفي الوقت نفسه إطلاق الرصاص على الفلسطينيين الثلاثة، وقتلهم بدعوى أنهم هم الذين قتلوا جورج بوش.

أما لماذا تراجعت المخابرات الإسرائيلية في اللحظات الأخيرة عن قتل بوش، فلأن ضابط الموساد المنشق إبراييم، سرّب خطة الموساد لقتل بوش إلى فيكتور أستروفسكي الذي يقول في كتابه إنه نقلها بدوره من مخبئه، إلى الكاتب الأميركي الشهير جاك أندرسون فنشرها كاملة في عموده اليومي، وتناقلتها الصحف الأميركية كافة، فحطت طيور الخيبة على رأس قادة «الموساد» الإسرائيلي، وماتت الخطة قبل أن ترى النور.