إذا جاز لنا وصف ما يحصل على الساحة السياسية في السنوات الخمس الماضية بالصراع، فهو صراع مدمر بعيد الأثر طويل الأمد صعب العلاج رهين العناد خصيم الرشد والصلاح. إن لبعض القوى والنخب السياسية، كما للسلطة السياسية ممثلة في الحكومة، سلبيات عابرة وأخرى متأصلة تختفي عندما تتغلب الحكمة، وتبتعد كلما قويت أصوات العقلاء، القوى والنخب تعاني الاحتكار وغلبة العمل الانتخابي على حساب العمل السياسي، والسلطة لا تريد من يحاسبها على أعمالها، وهما أي الحكومة والنخب ظلتا تتصارعان وفق قواعد شبه ثابتة.
لقد كشفت السلطة أوراقها منذ زمن طويل، وعبرت عن ضيقها بالممارسة الديمقراطية عدة مرات، وأخطرها تعطيل العمل بالدستور نهائيا واستبداله بما سمي بالمجلس الوطني، ولكنها في معظم المحطات السابقة كانت سلطة واحدة متعددة الأبواب والنوافذ، تحرص على الوقوف عند حد معين من الصراع، وتسعى إلى الإبقاء على خصومها تحسبا للمتغيرات الحتمية، ولعل تبدل موازين بعض القوى السياسية في تلك الحقب خير دليل على ذلك.لقد كنت وما زلت وسأظل أكرر القول إن اللعبة السياسية وأزماتها في الكويت كانت محصورة داخل أسوار البرلمان حتى أغلق البرلمان بوجه النواب والمجاميع المطالبة بتعديل النظام الانتخابي من نظام 25 دائرة إلى 5 دوائر، ذلك الوضع هو الذي صنع ساحة الإرادة ورمزيتها كمكان يجسد قوة الشعب كمصدر للسلطات جميعها.هذه الأوضاع الجديدة قوبلت بنمط تفكير لم يحسب قوة الرياح التي حملتها التطورات السريعة في طرق وصول المعلومات (قوة المدونات) التي جعلت "الصورة المغايرة والتفسير الآخر للحدث" يهزآن بزمن الصحافة الورقية وكل حراس البوابة الذين كانوا يحبسون الحقيقة تبعا للأوامر، تلك المعركة السياسية انتهت بسرعة لمصلحة من يطالبون بتعديل النظام، ولكنها حملت رسالة إلى دوائر اتخاذ القرار مفادها أن أي محاولة لتثبيت شكل الخلاف السياسي مستقبلا داخل البرلمان وتحت مظلة القواعد القديمة أمر قد أصبح من الماضي، لأن الرأي العام تلمس قوته على رفع سقف المطالب وكانت "الحكومة" هي مرشده ودليله.ومنذ ذلك حتى وقت قريب دخلت الكويت في أزمات بعضها سياسي وبعضها الآخر يتخفى بالسياسة، وهو في الواقع تصفية لحسابات طائفية أو عنصرية أو طموحات لأطراف تريد تخريب موازين القوى القائمة، وخلق مشهد جديد تكون فيه لهم مكانة رفيعة.تلك الأزمات أفرزت لنا نتائج كثيرة أهمها: تخلي السلطة عن أوراق سياسة الاحتواء والوسطاء المقبولين ولجوئها إلى استعمال الأسلحة الخشنة ضد خصومها، ثانيا: وجود فجوة كبيرة بين سرعة تدهور الأوضاع وسرعة الإدارة العامة وكفاءتها في التعامل معها، ثالثاً: اتجاه الصراع الطائفي إلى ما هو أكثر من التأثر بأحداث المنطقة، وإلى تسيد جميع الصراعات وسحق جميع الأصوات والجهود لتهدئتها، وانتخابات مجلس 2017 القادمة ستكون هي حصيلة كل التراكمات التي لم تعالج في وقتها وتركت للمتشددين، رابعاً: تآكل ساحة العمل السياسي واقتصارها على أطراف محددة داخل السلطة وطرفين أو ثلاثة فقط داخل البرلمان، وحولهما صحراء سياسية لم تخلقها مقاطعة الانتخابات لكنها نتيجة حتمية لضعف مؤسسات الدولة وجميع القوى الفاعلة، وتلك المعادلة أي تحكم أطراف محدودة في أجهزة صنع القرار هي "الوهم" التاريخي الذي حاول الكثيرون ضغط زر "تثبيت الصورة" عليه، ولكنهم فشلوا في النهاية لأن السياسة بطبيعتها متحركة ولا ولاء لها إلا للحركة.النتيجة الخامسة: عدم وجود مؤشرات قوية على "تعلم" معظم الأطراف السياسية من أخطائها وخطاياها، ولو حدثت بالأمس القريب، وأخطرها البطش بالخصوم متى ما ظفروا بهم، وتجربة تبادل الأدوار بين أقلية وأكثرية والقرب والبعد من الحكومة لا تزال حية ماثلة للعيان.في الختام لقد جرى في المجلس الحالي حقن قانون الانتخاب بمادة "الثأر"، خلافا لجدول الأولويات المزعوم، فأين الضرورة التي فرضت نفسها كي يعدل قانون الانتخاب غير استغلال فرصة البطش بالخصوم؟ ومن المستفيد الأول من تعديله بهذا الشكل المريب؟ سأعتبر أن ما حدث صفحة جديدة تضاف إلى سجل الأوهام التاريخي لتثبيت ما يستحيل تثبيته، وسبحان الذي يغير ولا يتغير.
مقالات
الأغلبية الصامتة: رهين العناد
30-06-2016