لما كانت الليلة السابعة والثمانون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة عبدالملك بن مروان، لما سمع ما قاله العلماء عن حكم سيدنا سليمان للمردة والشياطين، استحسن الكلام، وقال: والله إني لأشتهي أن أرى شيئاً من تلك القماقم. فقال طالب بن سهل: يا أمير المؤمنين إنك تستطيع ذلك وأنت مُقيمٌ هنا، وما عليك إلا أن ترسل إلى أخيك عبد العزيز بن مروان، فيكتب إلى موسى بن نصير، في بلاد المغرب كي يبحث هناك عن بعض هذه القماقم التي تطلب ويرسلها إليك.

فاستصوب رأيه، وقال لطالب بن سهل: أريد أن تكونَ أنت رسولي إلى موسى بن نصير في هذا الأمر، ولك الراية البيضاء وكل ما تريده من مال أو جاه أو غير ذلك. فقال: حبا وكرامة يا أمير المؤمنين. ثم كتب له الخليفة كتابا لأخيه عبد العزيز نائبه في مصر، وكتابا آخر إلى موسى نائبه في بلاد المغرب ليبحث عن «القماقم السليمانية» بنفسه، بعد أن يستخلف ولده على البلاد، ثم ختم الكتابين وسلمهما إلى طالب بن سهل، وزوده بالأموال والخيل والأعوان، وأمر بإجراء النفقة على بيته، من كل ما يحتاج إليه.

Ad

لما كانت الليلة الثامنة والثمانون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أن طالباً بن سهل سافر من الشام إلى مصر، فتلقاه أميرها وأنزله عنده وأكرمه غاية الإكرام، ثم بعث معه دليلاً أوصله إلى الأمير موسى بن نصير، فلما سلّمه كتاب الخليفة وقرأه، وضعه على رأسه وقال: سمعاً وطاعة لأمير المؤمنين.

ثم أحضر أرباب دولته وأعلمهم بما تضمنه ذلك الكتاب: فقالوا: أيها الأمير إن أردتَ من يدلك على مكان تلك القماقم، فعليك بالشيخ عبد الصمد بن عبد القدوس، فهو قد سافر كثيراً وخبر البراري والقفار والبحار وسكانها وعجائبها، ولا بد من أن يرشدك إلى ما تريده. فأمر موسى بإحضاره، فلما حضر وجده شيخاً كبيراً قد أهرمه تداول السنين.

وبعد أن رحَّب به وأكرمه قال له: يا شيخ عبد الصمد، إن مولانا أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان قد أمرنا بكذا وكذا، وأنا قليل المعرفة بتلك الأرض، وقد قيل إنك عارف بطرقها ومسالكها، فهل لك رغبة في قضاء حاجة أمير المؤمنين؟

قال الشيخ: اعلم أيها الأمير أن هذه الطرق وَعِرة قليلة المسالك، وهي على مسيرة سنتين وشهر ذهاباً، ومثلها مجيئاً، وفيها شدائد وأهوال وغرائب وعجائب، وأنا على استعداد للسفر معك إلى تلك الأصقاع، ولكنك رجل مجاهد، وبلادنا بالقرب من العدو الذي يُخشى منه عليها في غيبتك، فإذا عزمت على السفر فلا بد من أن تستخلف على البلاد من يدبر أمورها، فقال له: قد فعلت واستخلفت ولدي هارون، وأخذت له العهد، وأمرت الجنود أن يطيعوه في جميع ما يأمر به.

وكان ولده هارون عظيم البأس، هماماً جليلا، وبطلاً عظيماً، فقال له الشيخ عبد الصمد: نعم ما فعلت، أما الموضع الذي فيه حاجة أمير المؤمنين فهو على ساحل البحر، وفيه منازل منحوتة في الصخر وتماثيل وغيرها، ولا أعلم أن أحداً من الملوك وطيء هذه الأرض قبل ملك الإسكندرية المسمى داران.

ثم ساروا إلى تلك الجهة، إلى أن وصلوا إلى قصر، فقال الشيخ عبدالصمد للأمير موسى: إن هذا القصر عبرة لمن اعتبر. ثم تقدما ومن معهما حتى وصلوا إلى بابه، فوجدوه مفتوحاً وله أركان طويلة، ودرجات بينها درجتان من الرخام الملون الذي لم ير مثله، والسقوف والحيطان منقوشة بالذهب والفضة والمعدن، وعلى الباب لوحٌ عليه نقوش يونانية، فسأل الشيخ عبد الصمد الأمير: هل أقرأ ما في هذا اللوح؟ فأجابه: اقرأ بارك الله فيك، فقرأه فإذا هو شعر ترجمته هذه الأبيات:

قوم تراهم بعد ما صنعوا

يبكي على الملك الذي نزعوا

فالقصر فيه منتهى خبر

عن سادة في الترب قد جمعوا

أبادهم موت وفرقهم

وضيّعوا في التراب ما جمعوا

كأنما حطوا رحالهم

ليستريحوا ثم قد رحلوا

بكى الأمير موسى حتى غشي عليه وقال: لا إله إلا الله الحي الباقي بلا زوال. ولما دخل القصر أخذه العجب من حسنه وبنائه وما فيه من الصور والتماثيل، وكانت على بابه الثاني أشعار مكتوبة، فقال الأمير موسى للشيخ: اقرأها، فقرأها فإذا هي:

كم معشر في قبابنا نزلوا

على بساط النعماء وارتــــــحلوا

فانظر إلى ما جرى وما

صنعت حوادث الدهر إذ بها نزلوا

تقاسموا كل ما له جمعوا

وخلفوا كل ذاك وارتحلوا

كم لابسوا نعمة وكم أكلوا

فأصبحوا في التراب قد أكلوا

كوش بن شداد

بكى الأمير موسى بكاء شديداً وأظلمت الدنيا في وجهه، ثم قال: لقد خلقنا لأمر عظيم. ثم تأملوا القصر فإذا هو قد خلا من السكان، وعدم الأهل والقطان، دوره موحشات، وجهاته مقفرات، وفي وسطه قبة عالية شاهقة في الهواء، وحواليها أربعمئة قبر، فقال الأمير للشيخ: ما هذا القبر المبني بالرخام بين هذه القبور؟ وما هذه القبور؟ وما هذه الكتابة التي عليه؟ فتقدم الشيخ وقرأ تلك الكتابة، فإذا هي هذه الأبيات:

فكم قد وقفت وكم قد فتكت

وكم قد شهدت من الكائنات

وكم قد أكلت وكم قد شربت

وكم قد سمعت من الغانيات

وكم قد أمرت وكم قد نهيت

وكم من حصون ترى مانعات

فحاصرتها ثم فتشتها

وبينت منها حلي الغانيات

ولكن بجهلي تعديت في

حصول أمان غدت فانيات

فحاسب لنفسك يا ذا الفتى

قبيل شرابك كأس الممات

فعما قليل يهال الثرى

عليك وأنت عديم الحياة

بكى الأمير موسى ومن معه، ثم دنا من القبة فإذا لها ثمانية أبواب من خشب الصندل، بمسامير من الذهب، مكوكبة بكواكب الفضة، ومرصعة بالمعادن وأنواع الجواهر، ومكتوبة على الباب الأول هذه الأبيات:

ما قد تركت فما خلفته كرما

بل القضاء وحكم في الورى جاري

فطالما كنت مسروراً ومغتبطاً

أحمي حماي كمثل الضيغم الضاري

حتى رميــــــت بأقدار مقدرة

من الإله العظيم الخالق البـــاري

قد كان موتي محتوما على عجل

فلم أطق دفعه عني باكثــــــــاري

ولا جنودي التي جمعتها نفعت

ولم تفدني غداة الموت أعذاري

فلا تغرنك الدنيا بزينتها

وانظر إلى فعلها بالأهل والجار

لما سمع الأمير موسى هذه الأبيات، بكى بكاء شديداً حتى غشي عليه. وعندما أفاق دخل القبة فرأى فيها قبراً طويلاً هائل المنظر، وعليه لوح من الحديد الصيني. دنا منه الشيخ عبد الصمد وقرأه، فإذا به مكتوب: بسم الله الدائم الأبدي الآبد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، بسم الله ذي العزة والجبروت، بسم الحي الذي لا يموت.

لما كانت الليلة التاسعة والثمانون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ عبدالصمد لما قرأ ما ذكرناه رأى بعده مكتوباً في اللوح: «أما بعد أيها الواصل إلى هذا المكان، اعتبر بما ترى من حوادث الزمان، وطوارق الحدثان، ولا تغتر بالدنيا وزهوها وبهتانها، وغرورها وزخرفها، فإنها مكَّارة غدَّارة، أمورها مُستعارة، فهي كأضغاث النائم وحلم الحالم، كأنها سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، يزخرفها الشيطان للإنسان إلى الممات. هذه صفات الدنيا، فلا تثق بها، ولا تمل إليها، فإنها تخون من استند إليها، وعول في أموره عليها. لا تقع في حبالها ولا تتعلق بأذيالها، فإني ملكتُ أربعة آلاف حصان أحمر في دار، وتزوجت ألف بنت من بنات الملوك النواهد الأبكار، كأنهن الأقمار، ورزقت بألف ولد كأنهم الليوث العوابس، وعشت من العمر ألف سنة منعم الباب، وجمعت من الأموال ما يعجز عنه ملوك الأقطار، وكان ظني أن النعيم يدوم لي بلا زوال، فلم أشعر حتى نزل بنا هازم اللذات ومفرق الجماعات، وموحش المنازل ومخرب الدور العامرات، ومُفني الكبار والصغار والأطفال والولدان والأمهات، وقد مكثنا في هذا القصر مطمئنين، حتى نزل بنا حكم رب العالمين، رب السموات والأراضين، فأخذتنا صيحة الحق المبين، فصار يموت منا كل يوم اثنان، حتى فنى منا جماعة كثيرة. لما رأيت الفناء قد دخل ديارنا، وفي بحر المنايا أغرقنا، أحضرت كاتباً وأمرته أن يكتب هذه الأشعار والمواعظ والاعتبار، وجعلتها مسطرة على هذه الأبواب والألواح والقبور.

وقد كان لي جيش به ألف ألف فارس، كلهم ليوث عوابس، سيوفهم حداد، وسواعدهم شداد، فلما نزل حكم الممات، أمرتهم أن يلبسوا الدروع السابغات، ويتقلدوا السيوف الباترات، ويعتقلوا الرماح الهائلات، ويركبوا الخيول الصافنات، وقلت لهم: هل تقدرون أن تمنعوا ما نزل بي؟ فقالوا: كيف نحارب من لم يحجب عنه حاجب؟ فقلت لهم: أحضروا لي الأموال، وهي ألف جب، في كل جب ألف قنطار من الذهب الأحمر، وفيها أصناف الدر والجوهر، ومثلها من الفضة البيضاء، فلما أحضروا المال بين يدي قلت لهم: هل تقدرون أن تنقذوني بهذه الأموال كلها وتشتروا لي يوماً أعيشه؟ فلم يقدروا على ذلك وصاروا مسلمين للقضاء والقدر، وصبرت على القضاء والبلاء حتى سلمت روحي، وأسكنت ضريحي، وإن سألت عن اسمي، فإني «كوش بن شداد بن عاد الأكبر».

العفريت داهش

بينما هم يطوفون بنواحي القصر، ويتأملون في مجالسه ومُتنزهاته، إذا هم بمائدة على أربعة قوائم من المرمر، مكتوب عليها، قد أكل على هذه المائدة ألف ملك أعور، وألف ملك سليم العينين، كلهم فارقوا الدنيا وسكنوا الأرماس والقبور. فكتب الأمير موسى ذلك كله، ثم خرج ولم يأخذ معه من القصر غير المائدة، وسار العسكر والشيخ عبد الصمد أمامهم يدلهم على الطريق، حتى مضى ذلك اليوم كله ويومان بعده.

ثم إذا هم برابية عالية، عليها فارس من نحاس، وفي رأس رمحه سنان عريض براق يكاد يخطف البصر، مكتوب عليه: أيها الواصل إليّ إن كنتَ لا تعرف الطريق الموصلة إلى مدينة النحاس، فافرك كفّ الفارس فإنه يدور ثم يقف، وأي جهة وقف متجهاً إليها فاسلكها، ولا خوف عليك ولا حرج، فإنها توصلك إلى مدينة النحاس.

لما كانت الليلة التسعون بعد المئتين، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأمير موسى لما فرَك كف الفارس دار كأنه البرق الخاطف، وتوجه إلى غير الجهة التي كانوا فيها، فسار القوم في الطريق التي دلهم عليها، ولم يزالوا سائرين يومهم وليلتهم حتى قطعوا بلاداً بعيدة، فبينما هم سائرون، وإذا هم بعمود من الحجر الأسود، وفيه شخص غائص في الأرض إلى إبطه، وله جناحان عظيمان، وأربع أياد: يدان كأيدي الآدميين، ويدان كأيدي السباع فيهما مخلب، وله شعر في رأسه كأنه أذناب الخيل، وعينان كأنهما جمرتان، وله عين ثالثة في جبهته كعين الفهد يلوح منها شرر النار... وهو أسود طويل، ثم صاح: سبحان من حكم عليَّ بهذا البلاء العظيم والعذاب الأليم إلى يوم القيامة. فلما عاينه القوم طارت عقولهم، واندهشوا لما رأوا من صفته وولوا هاربين.

قال الأمير موسى للشيخ عبدالصمد: ما هذا؟ أجاب: لا أدري ما هو. فقال له: ادن منه وابحث عن أمره فلعله يكشف عن سره ولعلك تطَّلع على خبره. فقال الشيخ عبد الصمد: أصلح الله الأمير، إنا نخاف منه. فقال: لا تخافوا فإنه مكفوف عنكم وعن غيركم بما هو فيه.

دنا منه الشيخ عبد الصمد وقال له: أيها الشخص ما اسمك؟ وما شأنك؟ وما الذي جعلك في هذا المكان على هذه الصورة؟ فقال له: أنا عفريت من الجن، واسمى داهش بن الأعمش، وأنا مكفوف عنكم وعن غيركم بالعظمة، محبوس بالقدرة، معذب إلى ما شاء الله عز وجل... فقال الأمير موسى للشيخ عبد الصمد: اسأله ما سبب سجنه في هذا العمود. فسأله عن ذلك فقال له العفريت: إن حديثي عجيب، وذلك أنه كان لبعض أولاد إبليس صنم من العقيق الأحمر، وكنت موكلاً به، وكان يعبده ملك من ملوك البحر، جليل القدر عظيم الخطر، يقود من عساكر الجان ألف ألف، يضربون بين يديه بالسيوف، ويجيبون دعوته في الشدائد، وكان الجان الذين يطيعونه تحت أمري ويتبعون قولي، بينما هم يعصون سليمان بن داود عليه السلام، وكنت أدخل في جوف الصنم فآمرهم وأنهاهم..

وكانت ابنة ذلك الملك كثيرة السجود لذلك الصنم، منهمكة في عبادته، وهي ذات حسن وجمال، وبهاء وكمال، فوصفتها لسليمان، فأرسل إلى أبيها يقول له: زوجني بنتك واكسر صنمك العقيق واشهد أن لا إله إلا الله، فإن أنت فعلت ذلك كان لنا ما لك وعليك ما علينا، وإن أنت أبيت أتيتك بجنود لا طاقة لك بها، فأعد للسؤال جواباً، والبس للموت جلباباً، فسوف آتيك بجنود تملأ الفضاء.

الوزير الدمرياط
لما جاء رسول سليمان إلى الملك، طغى وتجبّر، وتعاظم وتكبر، ثم قال لوزرائه: ماذا تقولون في طلب سليمان بن داود؟ فقالوا: أيها الملك العظيم هل يقدر سليمان أن يفعل بك ذلك وأنت في وسط هذا البحر العظيم؟ إنه إن سار إليك لا يقدر عليك، فإن مردة الجن يقاتلون معك، وتستعين عليه بصنمك الذي تعبده فيعينك عليه وينصرك، والصواب أن تشاور الصنم العقيق الحمر وتسمع ما يكون جوابه، فإن أشار عليك أن تقاتله فقاتله وإلا فلا. عند ذلك سار الملك من وقته وساعته، ودخل على صنمه بعد أن قرب القرابين وذبح الذبائح، وخر له ساجداً وجعل يبكي ويقول شعراً:

يا رب إني عارف بقدركا

وها سليمان يروم كسركا

يا رب إني طالب لنصركا

فأمر فإني طائع لأمركا

ثم قال ذلك العفريت الذي نصفه في العمود للشيخ عبد الصمد، ومن حوله يسمعون: فدخلت أنا في جوف الصنم من جهلي وقلة عقلي وعدم اهتمامي بأمر سليمان وجعلت أقول شعراً:

أما أنا فلـست منه خــائف

لأنني بكل أمر عـــــارف

وإن يرد حربي فإني زاحف

وإنني للروح منه خاطف

لما سمع الملك جوابي له، قوى قلبه وعزم على حرب سليمان، فلما حضر رسول سليمان، ضربه ضرباً وجيعاً، ورد عليه رداً شنيعاً، وأرسل يهدده ويقول له مع الرسول: لقد حدثتك نفسك بالأماني، فإما أن تسير إلىّ وإما أن أسير إليك. ثم رجع الرسول إلى سليمان وأعلمه جميع ما كان وما حصل له.

لما سمع سليمان ذلك، جهَّز عساكره من الجن والإنس والوحوش والطير والهوام، وأمر وزيره الدمرياط ملك الجن أن يجمع مردة الجن من كل مكان، فجمع له نحو ستمئة ألف ألف، وأمر آصف بن برخيا أن يجمع عساكره من الإنس فكانت عدتهم ألف ألف أو يزيدون. وأعد العدة والسلاح، وركب هو وجنوده من الجن والإنس على البساط، والطيور فوق رأسه طائرة، والوحوش من تحت البساط سائرة، حتى نزل بساحته، وأحاط بجزيرته، وقد ملأ الأرض بالجنود.

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.