{مخابرات ومخدرات}... علاقات سيئة السمعة

الحدود... ثغرة الهيروين

نشر في 01-07-2016
آخر تحديث 01-07-2016 | 00:04
بينما كان المهرب الإسرائيلي يوسف طحان يثير الأسئلة من حوله لعدم تنفيذ حكم الإعدام فيه بتهمة إدخال المخدرات إلى مصر، جرت في النهر مياه كثيرة، وبدأت تتكشف معلومات طوال عقد الثمانينيات من القرن الماضي، عن تكثيف المخابرات الإسرائيلية نشاطها لإدخال أكبر قدر ممكن إلى مصر عبر ثغرة الحدود المصرية مع قطاع غزة، واعترف قادة في الجيش والمخابرات الإسرائيلية بتحوّل الكيان الصهيوني إلى مصدّر للمخدرات للمنطقة العربية كلها.
أثار لغز عدم تنفيذ حكم الإعدام في المهرب الإسرائيلي يوسف طحان أقاويل كثيرة، وأثار الدهشة، حول أسباب عدم تنفيذ الحكم فيه، رغم إعدام مهرب باكستاني ومهربين مصريين، حُكم عليهم بعد صدور حكم طحان، وبدأت الصحف المصرية والإسرائيلية البحث عن أسباب عدم تنفيذ الحكم في هذه الشخصية المثيرة للجدل، ما قاد إلى مفاجآت في القضية التي تمس الأمن القومي المصري.

كان لصحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية السبق في تأكيد أن حكم إعدام طحان لن يعرف طريقه إلى النور، إذ نشرت بتاريخ 9 فبراير 1986 أن “تنفيذ حكم الإعدام في يوسف، سيكون كارثة على العلاقات المصرية الإسرائيلية”، وكانت العلاقات بين القاهرة وتل أبيب متوترة آنذاك بسبب قضية التحكيم الدولي في منطقة طابا الحدودية، التي ادعت إسرائيل ملكيتها لها، رافضة الانسحاب منها، ما دفع القاهرة إلى طلب التحكيم الدولي.

أما صحيفة “الأخبار” القاهرية، فأقسمت في عددها الصادر بتاريخ 25 أغسطس 1989، بأن مهرب المخدرات الإسرائيلية يوسف طحان، هو في الحقيقة “أحد قيادات الموساد”، بل كان نائباً للحاكم العسكري الإسرائيلي في قطاع غزة، وأن المخابرات الإسرائيلية استخدمته في إدخال المخدرات إلى مصر، في إطار إشرافها الكامل على تجارة تهريب الهيروين إلى مصر والسعودية والأردن.

مجلة “روزاليوسف” القاهرية، دخلت على الخط بقولها، في عدد 11 نوفمبر 1989، إن طحان كان يعمل في جهاز المخابرات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، وإن أجهزة الأمن المصرية تعتقد بأن المخابرات الإسرائيلية وراء خطط تهريب المخدرات إلى مصر، وإغراق المحافظات المصرية بها، واستندت المجلة في تقريرها إلى معلومات استقتها من الصحف الأميركية، توافقت مع معلومات بعض أجهزة الأمن المصرية.

مخطط قديم

أثارت قضية طحان الكوامن، وأعادت إلى الذاكرة أخباراً بدت بلا رابط أو سياق في حينها، فقضية طحان ربطت جميع الأخبار المنشورة في صحف مصرية وإسرائيلية وغربية في سياق واحد، وتعود التقارير الصحافية بالذاكرة إلى نهاية السبعينيات، تحديداً في 26 نوفمبر 1979. وبعد ثمانية أشهر من توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، نشرت مجلة “روز اليوسف”، تحقيقاً صحفياً مترجماً وصفته بـ”الفضيحة”، ووضعت له عنواناً صريحاً: “المخابرات الإسرائيلية تدير شبكة لتهريب المخدرات إلى مصر”.

كشف كاتب التقرير الإسرائيلي إيفال لافيف أن الرقابة العسكرية الإسرائيلية رفضت نشره في المجلة التي يعمل بها داخل إسرائيل، واضطر إلى نشرها في مجلة “إسرائيل وفلسطين”، التي يصدرها في باريس مجموعة من اليهود المؤيدين لحقوق الشعب الفلسطيني، وهو التقرير الذي نقلته “روزاليوسف” إلى العربية.

وقال لافيف إن “المخابرات العسكرية الإسرائيلية تساعد عملاءها، منذ سنوات طويلة، على تهريب المخدرات من جنوب لبنان إلى مصر والأردن، عن طريق إسرائيل، وهي بذلك تضمن انتشار هذه السموم بين العرب، وتحصل على معلومات مهمة عن الجيوش العربية عبر شبكة المهربين الجواسيس، مقابل حصول هؤلاء المهربين على عائد بيع المخدرات في مصر أو الأردن، وبذلك تكون المخابرات الإسرائيلية حققت أهدافها الخفية، من دون أن تنفق شيكلاً إسرائيلياً على هذه النوعية من الجواسيس التي تعمل في تجارة المخدرات”.

نطالع بعض الحقائق المخفية في رسالة كتبها وكيل وزارة النقل البحري سابقا، مختار السويفي، نشرها بريد صحيفة “الأهرام” القاهرية في18 ديسمبر1989، وفيها يقول نصاً:

“هل لنا أن نلتفت قليلاً إلى تلك السلسلة من الظواهر الغربية التي أصابتنا جميعاً، من دون أن ندرك تتابعها المنتظم، ودقة توقيت حدوثها واحدة وراء الأخرى، هل نسينا أن لنا عدواً هو المستفيد الوحيد من إنهاكنا هكذا؟

هل نسينا أنهم بعدما فشلوا في ثغرة الدفرسوار يحاولون الآن صناعة ثغرة جديدة، بالمخدرات، تدمر الشباب؟ هل نسينا أن الحرب ليست طائرات ودبابات ومدافع فحسب، إنما لها أساليب حديثة قد تصل إلى تسميم الطعام والشراب، وقد تكون بتلويث الشواطئ أو تدمير الشباب بالمخدرات، أو ضرب النشاط الاقتصادي أو قتل روح الانتماء؟ وكلها تتم بطرائق ملتوية، تبدو كما لو كانت حوادث فردية وقعت مصادفة، من دون قصد سياسي إجرامي يتخفى وراءها.

هل نسينا أن من شرور العلم الحديث ظهور نوع من الحروب، يسمى الحروب البيولوجية، أو الميكروبية أو الجرثومية، وثمة طرائق مدروسة تستخدم كمنصات لإطلاق هذه الأسلحة الفتاكة، لتصيب الإنسان بالأمراض أو لتقضي على المحاصيل الزراعية أو الثروة الحيوانية، وغيرها من أنشطة إنتاجية ذات الوزن الاقتصادي المؤثر”.

غير بريئة

هكذا دقت رسالة السويفي، الذي كان مسؤولاً يوماً في جهاز الحكومة المصرية، أجراس الخطر في نهاية الثمانينيات، كي يدعونا من خلالها إلى أن نفتح عيوننا وعقولنا، ونعي حقيقة ما يدبر لنا في الخفاء، ويتم تسويقه كحوادث فردية تقع مصادفة. لكن المتأمل سيجد دوماً أن تتبع الخيوط المبعثرة تقود دوما إلى المخابرات الإسرائيلية.

أحد هذه الأخبار التي تبدو كأنها حوادث فردية، ما نشرته إحدى صحف المعارضة في القاهرة، بتاريخ 7 يونيو 1988، بأن الحكومة المصرية قدمت احتجاجاً شديد اللهجة لإسرائيل في أعقاب التأكد من تورط جهاز الموساد في عمليات واسعة لتهريب المخدرات إلى مصر، عن طريق جنوب لبنان الذي كان يشتعل بنيران الحرب الأهلية، وتزوير وترويج العملة المصرية والأجنبية، وإغراق السوق المصري بها، جاء ذلك بعد نجاح قوات البحرية المصرية في احتجاز إحدى السفن الصغيرة، التابعة لإحدى الميليشيات في المياه الإقليمية لمصر، وتبين أنها تقل أطناناً من الحشيش والهيروين. وفي أثناء التحقيق مع ملاحيّ السفينة، اعترفوا بأنهم قاموا بعمليات تهريب عدة للمخدرات من جنوب لبنان إلى الأراضي المصرية بمساعدة ضابط المخابرات الإسرائيلية.

وبعد هذا الخبر الجلل بيوم، خرجت علينا صحف القاهرة بخبر جديد، تقول فيه: “عرضت إسرائيل على مصر الإفراج عن ثلاثة سجناء مصريين من منظمة سيناء العربية، والمعتقلين في سجون إسرائيل، مقابل الإفراج عن ألتينا فايناخ الذي قبض عليه في القاهرة، وهو يروّج كمية كبيرة من الدولارات المزيفة”، هكذا يعترف النظام الصهيوني بمخططاته للقضاء على الاقتصاد المصري علانية وبلا خجل.

ونطالع الخبر الصادر في يونيو 1989، إذ أصدر وزير الداخلية، آنذاك، اللواء زكي بدر قراراً بسرعة التخلص من شحنة الأسمدة الإسرائيلية الفاسدة التي يبلغ وزنها 250 طناً، ويؤدي استخدامها إلى تبوير الأراضي الزراعية، وإصابة من يستخدمها بالسرطان بعد ضبطها منذ أسبوعين، عند بعض التجار. وخلال عمل فريق بحث من قيادات الداخلية على القضية، اكتُشف ما يزيد على 50 طناً أخرى من المبيدات الحشرية المحظور استخدمها دولياً، لدى خمسة من تجار محافظتي الجيزة والقليوبية، وتم التأكد من أن مصدرها هو إسرائيل.

واعترف زكي بدر أمام البرلمان المصري في نهاية الثمانينيات بأن إجراءات مكافحة المخدرات في مصر، لا تزال بعيدة عن تحقيق أهدافها المرجوة، وأن عمليات تهريب المخدرات جارية على قدم وساق، ويتزايد خطرها مع تزايد قدرة المهربين على الإفلات من أساليب المواجهة التي تتبعها الشرطة المصرية. لكن فاته أن يعلن أن المهربين تدربوا على يد الموساد الإسرائيلي على أحدث وسائل المراوغة للهروب من أعين الشرطة والدخول إلى مصر عبر سيناء.

كذلك تطالعنا صحيفة “الأهرام” بتاريخ 19 ديسمبر 1989، بتصريحات مساعد وزير الداخلية ومدير إدارة شرطة المسطحات المائية، اللواء نبيل حسن، قال فيها إن “ثمة كميات كبيرة من المبيدات يتم تهريبها من إسرائيل إلى مصر عن طريق مجموعة من المهربين على الحدود، وتم رصد وضبط هذه المبيدات المحظور استخدامها عالمياً، بعدما ثبت علمياً أنها تسبب السرطان والشلل والعقم والتخلف العقلي.

ونقرأ في عدد صحيفة “الأخبار” القاهرية، بتاريخ 28 ديسمبر1989: “ضبطت شرطة المسطحات المائية ثلاثة أطنان من المبيدات المحظور تداولها، والمهرب بعضها من إسرائيل، لدى تجار وأهالي بشمال سيناء، كذلك تم ضبط 13 طناً من المخصبات المحظورة و534 كيلوغراماً بذور طماطم وخيار مهربة من إسرائيل، محظور التعامل بها.

شهادة خطيرة
لا شك في أن الأخبار التي قرأتها عزيزي القارئ لا تكشف إلا وجهة النظر المصرية، والتي يمكن للبعض أن يشكك في مدى مصداقيتها لاعتبارات كثيرة، لكننا نستطيع أن نقول بقلوب مستريحة إن لهجة الصحف القاهرية كانت مهذبة ولم تنقل إلا النذر الضئيل من الحقيقة، التي نطالعها كاملة بلا رتوش ولا محاولة للتزويق في الصحف الإسرائيلية ذاتها. فقد كشفت صحيفة “جيروزاليم بوست” في تقرير لها منشور بتاريخ 30 نوفمبر 1981، كوارث للأمن القومي المصري، نقرأ فيه:

“ما زالت أرض بلاد النيل واحدة من أكبر الدول المستهلكة للمخدرات في العالم، وكميات المخدرات التي تصل الآن إلى الأسواق المصرية، تأتي عبر صفقات مشتركة بين مصر وإسرائيل، وهي أكبر صفقات تجارية تجري بين البلدين، منذ فتح الحدود في أعقاب معاهدة الصلح التي تمت بين القاهرة وتل أبيب.

وكل الأشخاص الذين يقيمون تلك الصفقات في إسرائيل، والذين سئلوا رأيهم في الموضوع، لم يكن أحد منهم مستعداً لإعطاء تقديرات دقيقة حول حجم تلك التجارة السرية، إلا أن ضابطاً إسرائيلياً رفيع المستوى أشار إلى أن المعلومات المتوافرة لدى الشرطة الإسرائيلية، حول نقل المخدرات بين إسرائيل وسيناء، لا تصل إلا إلى عشر حجم النشاط، الذي يتم عادة من خلف ظهر رجال مكافحة المخدرات في البوليس الإسرائيلي، لا سيما أن حدود سيناء سهلة الاجتياز بالمقارنة مع الحدود الإسرائيلية القائمة مع بقية الدول العربية، وفيها مراقبة عسكرية أشمل وأقوى بكثير منها على حدود إسرائيل مع سيناء.

رافي فيليد، رئيس فرع المهمات الخاصة في اللواء الجنوبي بشرطة إسرائيل، يرى أن إسرائيل تقع الآن وسط محور انتقال المخدرات، من الشمال إلى الجنوب، أي من تركيا ولبنان إلى مصر عبر إسرائيل، ولأن مصر مستهلك كبير للمخدرات فقد انتعشت هذه التجارة بقوة.

أما الرائد شالوم أوريئيل، رئيس فرع المهمات الخاصة في قطاع غزة، فعدد وسائل وطرائق نقل المخدرات من إسرائيل إلى سيناء، وقال إن حمولة المخدرات يتم شحنها على ظهر الجمال أو في شاحنات، يتم تهريبها عبر الدروب الصحراوية في جنوب إسرائيل ومنها إلى الحدود المصرية، ومن ثم تمر وسط وديان سيناء العميقة، في الفترة التالية لهطول الأمطار وتحول الرمال إلى أرض صلبة، حيث بإمكان السيارات اجتيازها من دون صعوبة، وكلها طرائق غير معروفة إلا للمهربين وأبناء الصحراء.

أما عن محاور العبور البحرية فتأتي المخدرات في زوارق قادمة من لبنان، وتعقد لقاءات سرية في عرض المتوسط بين هذه الزوارق وزوارق صيد من العريش وأخرى من قطاع غزة، حيث يتم تقسيم الوجبة الدسمة بين العريش وتل أبيب.

ويقول الرئد أمنون غيتاي، رئيس فرع المهمات الخاصة في شرطة تل أبيب: “إذا كانت سيناء هي المقر الرئيس لتخزين المخدرات المطلوبة لأرض النيل، فإن تل أبيب هي المحطة الثانية لتخزين تلك البضاعة، فور وصولها من تركيا أو جنوب لبنان إلى إسرائيل، وكما تعتبر سيناء مستودعاً لأرض النيل، فإن تل أبيب تعتبر المستودع الأكبر لسوق المخدرات على المستوى العالمي، حيث تخرج المخدرات منها إلى الموانئ البرية والجوية والبحرية الإسرائيلية، لا إلى جيراننا العرب فحسب، بل إلى أصدقائنا في إيطاليا وفرنسا وألمانيا ومعظم بلدان أوروبا”.

“ولم يعد سراً أن وزارة الدفاع، خصوصاً رجال الموساد، تمارس جهوداً للحيلولة دون كشف أسماء عدد من عملائها ومن القادة الكبار في الشرطة العسكرية وفي هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، ممن يتبين أنهم يساعدون مهربي المخدرات في مصر وفي جنوب لبنان، ما جعل إسرائيل تحتل مكانة متقدمة و”غير محترمة” بين الدول المصدرة للمخدرات في العالم”.

هكذا انتهى التقرير الإسرائيلي الذي يكشف بكل وضوح أن جهاز الموساد الإسرائيلي يتستر على عملائه من مهربي المخدرات، وأن الكيان الإسرائيلي يحتل مكانة غير محترمة بين الدول المصدرة لهذه السموم، فهل يكشف لنا هذا بعض حقيقة من هم وراء إغراق مصر بكل أنواع المخدرات؟ هل يكشف لنا ذلك الدولة التي يسعدها أن نغرق جميعا في غيبوبة الكيف.

الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات الإسرائيلية الجنرال مائير عاميت المتوفي سنة 2009، قال لصحيفة “يديعوت أحرنوت”: “أكثر ما يصيب إسرائيل بالضرر، أننا بدلا من أن نكون مشهورين في مجال الزراعة أو العلوم أو الطب أو غير ذلك، أصبحنا مشهورين بفضائح المخدرات والإيدز والمتاجرة بالأعمال الأمنية السرية”، هكذا جاء اعتراف شاهد من أهلها، ليجبر الجميع على إعادة النظر في قضية المهرب الإسرائيلي يوسف طحان الذي ينتظر تنفيذ حكم بالإعدام لا يجيء.

...يتبع

الصحف المصرية تكشف: طحان قيادي في الموساد ونائب الحاكم العسكري في غزة

زكي بدر يعترف بأن عمليات تهريب المخدرات جارية على قدم وساق من الجانب الإسرائيلي

اسرائيل تحصل على معلومات مهمة عن الجيوش العربية عبر شبكة المهربين الجواسيس
back to top