اختارت د. سهير أبو جلّود، نصوص يوسف الخال لأنها تحمل في طياتها خزيناً واسعاً وثراً من التجارب، ولأن الشاعر يعتبر أن الحداثة وكل ما فيها من وعي جديد بمتغيرات الحياة ومستجداتها الحضارية هي في تخطي كل ثابت، وأن الحداثة الشعرية هي ذلك الإبداع والخروج عن المألوف وانعكاسه في لغة غير مألوفة، فحفلت قصائده بالرمزية وبالإيحاءات المتميزة والتجارب المنوعة لروح الإنسان.

من العبث كما يرى يوسف الخال "الاستمرار في استعمال أساليب شعرية لا تصح بعد الآن للتعبير عن خوالج النفس، ولا أعني القوافي والأوزان فحسب، بل اللغة ذاتها أيضاً”... تقول الباحثة في سياق تحليلها، معتبرة أن أزمة الحياة العربية إجمالا هي أزمة لغة كما هي أزمة عقل، ومهما طال الوقوف في وجه الحياة، فلا بد عاجلا من الانصياع إلى نواميسها، وإلى أن يتم ذلك، يظلّ الأدب العربي المعاصر أدباً قديماً مصطنعاً محدوداً، لا يتجاوب مع نفس القارئ ولا يعبر تعبيراً صادقاً عن حياته.

Ad

تشير إلى أن قصائد يوسف الخال الحرة والعمودية جاءت بلغة مفعمة بخيال واضح، مطرّزة بإحساس الغربة والغياب والأحلام، لافتة إلى أن يوسف الخال امتلك تلك الخيالات بواقعية واضحة، تؤكد حسن امتهانه للفكر والمنطق اللذين يوجهان نظرته إلى الحياة، فالألفاظ عنده لا تصنع النص بل اللغة والعلاقات التي تنتظمها ضمن سياق شعري، تنشئ القصيدة التي تحمل معان وإيحاءات متجددة، فكان بحق شاعراً متمرساً في إيقاع أشطره الشعرية.

في دراستها لمستويات التلقي عند الشاعر يوسف الخال، أحد أهم أعلام الحداثة الشعرية في العالم العربي، تستند الباحثة إلى مستويات ثلاثة: المستوى الإخباري، المستوى الرمزي، المستوى الأسلوبي.

المستوى الإخباري

تلفت الباحثة إلى أن ميتافيزيقية يوسف الخال تبدو خارجية، لأن الشاعر في نصوص عديدة له يذهب بعيداً في خروجه من فرديته، بغية رفع ضميره إلى مستوى وحدة الضمير الإنساني، وينفتح على الواقع كله، وبقدر ما تمنح نصوصه معلومات تشعر القارئ بوصول معنى ما أو خبر، بقدر ما تتعزز العلاقة التبادلية والتواصلية بين القارئ وقراءته وبين النص، بين معنى النص وقارئه، المعنى الذي يستجلب بالحوار أو التفسير أو فك الخبايا، محاولات تتنوّع بتنوّع النص وغنى فكرته وجماليته، لتبرز ثقافة القارئ وتذوّقه وقدرته على تحفيز أبعاد جديدة تلمّح إلى قراءات متعددة للنص.

المستوى الرمزي

تعبّر الرموز في شعر يوسف الخال عن أفكاره، بحسب الباحثة واصفة إياها بأنها رموز واضحة بمعنى أنها تقدّم نفسها، ما شكل عبئاً على المتلقي الذي يطمح إلى نصوص مفتوحة تقدّم أكثر من معنى، وتنتظر قارئاً يستند بصلته في السياق والمرجع والإحاطة والمقصدية إلى دائرة تأويلية مكونة من مراحل: ما قبل الفهم، الفهم، ثم التأويل الذي يستحضر الذات والسياق. هنا يبرز ما عرف بالقراءة الفينومينولوجية أو الظاهراتية مع هايدغر وهوسرل التي تمد القارئ ذاتاً واعية مع النص ورموزه وتمنحه وجوده، فتعقد اتصالا إدراكياً ثم تفاعلياً بين الذات والموضوع فلا يكون وجود لأحدهما من دون الآخر.

تشير الباحثة إلى أن الخال حاول الخروج من فرديته والانفتاح على الواقع كله، فرفع ضميره إلى الضمير الإنساني بأجمعه، وكان لا بدّ للتأويل من أن ينصرف إلى الصراع مع المعنى لفهمه، لأن وظيفة النقد، برأي د. أبو جلّود، الإفصاح عن وهمية النص وعن لا حقيقته، لأن النص، بهذه اللاحقيقية واللاواقعية يملك سر امتيازه وسر تجسيده للإيديولوجيا المسيطرة، فيغدو التأويل وسيلة فهم عن طريق ذلك الصراع الفكري وليس وسيلة لفهم النص وتفسيره فقط.

تشير الباحثة إلى أن المتلقي، عند قراءة النص، يصادف رموزاً أو إشارات تحرك ذهنه باتجاه آخر، فيبدأ بتكوين لمحات وخصائص عمّا يقرأه، وقد لا تتفق تلك الخصائص أو لا توافق توقعاته، لكنها مثلا توافق توقعات قارئ آخر، "هذا ما يطلق عليه تغيير في أفق التوقع، وهذا ما يجعل التلقي متحركاً غير ساكن”، وتقصد الباحثة بالساكن "أننا على علم بما سيمنحنا النص مسبقاً فلا تكون حركة إلا في حالة استكشاف، والمرء لا يستكشف إلا ما يجهله ويخفى عليه. من هنا تأتي قيمة قراءة ما لم يصله مبدع النص”.

توضح الباحثة أن نصوص يوسف الخال تنتظر الخروج عن تقليدية النظر إلى الحياة والنظر إلى الله والعالم عن طريق تجدد اللغة والثقافة، نصوص يقظة، متجددة تتطلب قراءة تحمل السمتين ذاتيهما، وتطرح فكراً جديداً خبأه النص ولم يفصح عنه.

المستوى الأسلوبي

تعرّف أبو جلّود النص بأنه آليات أسلوبية ولغوية تفرض على القارئ نوع القراءة التي سيلجأ إليها وأثرها في مستوى التلقي، لما لها من أهمية في ملء الثغرات، وتشير إلى أن للبنيات الأسلوبية والشكلية والفجوات التي تزخر بها النصوص الشعرية أثر في التأويل، "هذا يعني أن الشاعر يصمت هنا وهناك أو يترك بياضاً نحتاج طريق التأويل الأسلوبي والاستمتاع الدلالي لملئه، فيسعى القارئ إلى الإجابة عن ذلك الصمت والحذف اللذين نلمحهما من أساليب مختلفة، نحاول تفسيرها وتأويلها”.

من هنا ترى أن على المتلقي أن يمتلك قدرة فهم أسلوب النص وتراكيبه اللغوية والدلالية، وأن يجمع خبرة لغوية ومعجمية ودلالية لتلقي النص أو في الأقلّ توقعه على مستوى الجملة.

رؤية مختلفة وزمن آخر
تختم الكاتبة دراستها بالتأكيد أن التلقي في شعر يوسف الخال لم يقتصر على كونه صدى للنص، بل هو أحد احتمالات كثيرة، مبينة أن "نصوصه تنتظر أطراً أخرى مختلفة من الرؤية في زمن تلقٍّ آخر لا يستطيع المتلقي فيه أن يستعيد زمن النص بل بتلقاء في اللحظة التي يقرأه فيها، وأن استعاده، كما حاولنا أن نفعل مع بعض النصوص، فله إبداع رؤية أخرى مختلفة ومتميزة كما نرجو”.

من هنا تفسر الاستمرارية في الخلق التي تولّدها القراءة النقدية، موضحة أن الإبداع الشعري ليس من صنع الشاعر وحده، فالمتلقي جزء من حالة الإبداع التي لن تكتمل صورته من دون إمكاناته وادواته النقدية وطرائقه التي ينتظر منها إن تضيء إبداع النص.