نجاح فيلم «الباطنية» بطولة نادية الجندي، جرّ وراءه أفلاماً تتحدث عن عوالم المخدرات والمدمنين، وكانت الصحف تتبارى في ما بينها في نشر قصص أشهر القرى التي تخصص أهلها في تجارة المخدرات، لا سيما في محافظة القليوبية القريبة من العاصمة المصرية، فيما كثفت الشرطة حملاتها فسقط تجار المخدرات تباعاً، في عهد وزير الداخلية اللواء أحمد رشدي (تولى المنصب في الفترة بين 1984 - 1986)، الذي قيل إن سبب خروجه من الوزارة هو تحالف كبار تجار المخدرات ضده بعدما كاد أن يدمر تجارتهم.

«ثمة مخطط دولي وراء تهريب المخدرات إلى مصر، يستهدف تدميرنا من الداخل»، قال وزراء الداخلية المتعاقبون صراحة أمام البرلمان المصري في أكثر من جلسة، سواء اللواء حسن أبو باشا في الأول من أبريل 1984، أو اللواء أحمد رشدي في الثاني من ديسمبر 1985، أو اللواء زكي بدر في 19 مارس 1999.

Ad

الغريب أنه رغم الحديث المتكرر عن وجود المخطط، فإن الجميع تغافل عن ذكر الجهة التي تقف خلفه. كلهم تناسوا أن أولى خطوات المواجهة الجادة والحقيقية لمواجهة محاولات إحداث ثغرة في المجتمع المصري، مكاشفة الشعب بحقيقة مصدرها، وحقيقة أهدافه، بدلاً من أن نضع رؤوسنا في الرمل، وعدم تسمية الأمور بمسمياتها الطبيعية، بل أفلام وكتب وخطب وبرامج تلفزيونية وقصص مغيبة ومسلية، تطاردنا بها أجهزة الإعلام الرسمية عن الكيف و«المساطيل» وإدمان المخدرات، ولا أحد منها أو من المسؤولين في الدولة المصرية يصارح الشعب المصري منبهاً إلى أن هذا الخطر المدمّر يقف خلفه العدو الصهيوني، المستفيد من أن نصبح جميعاً أمة مغيبة و«مسطولة»، لا تنتج حتى خبزها ليسهل عليهم هتك سرها وأرضها وعرضها وقتما يشاؤون.

بعض الحقيقة

مع انتشار المخدرات بصورة غير مسبوقة في مصر في الثمانينيات، بدأ بعض الحقيقة يتسرب ويظهر إلى الوجود، فهذا رئيس قسم مكافحة العقاقير التخليقية، اللواء عصام الترساوي، يقول لجريدة «الأخبار» القاهرية، في 18 أكتوبر 1988: «المخدر المسمى بـ«الماكستون فورت»، والذي ضبطنا منه ثلاثة ملايين سنتمتر مكعب في عام 1987، دخل إلى مصر على يديّ صيدلي يهودي اسمه زكي فضل الله حايك»، هكذا ببساطة تتسرب الحقيقة من دون أن يشعر من يريد أن يكتمها، فالنظام المصري القائم آنذاك كان حريصاً على اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني، رافضاً أي مساس بهذه العلاقة حتى ولو على حساب الحقيقة وصحة الشعب المصري وعقله.

تصريح آخر يقود إلى عوالم أخرى، وزير الداخلية في ذلك الوقت، اللواء زكي بدر، يقول في مارس 1988، إن «مصر لم تعرف الهيروين ولم يدخلها منه غرام، إلا في عام 1982»، فماذا يقصد؟

تولى مدير إدارة مكافحة المخدرات، وقتها، اللواء محمد فتحي عيد، تفسير ما قاله وزير الداخلية وقال صراحة لصحيفة «الجمهورية» القاهرية في 21 سبتمبر 1989: «معارك سنة 67 كانت قد أغلقت طرق تهريب المخدرات البرية المتمثلة في سيناء، والبحرية المتمثلة في خليج وقناة السويس، ومنذ عام 1981 ومع فتح الحدود المصرية مع إسرائيل مع عودة سيناء إلى مصر، عاد ثانياً تهريب المخدرات إلينا، لدرجة أن كمية المخدرات التي ضبطت في عام 1982 وحده وصلت إلى 68971 كيلوغراماً من الحشيش و365 كيلوغراماً من الأفيون والهيروين، ومن يومها ظل هذا الرقم يتصاعد حتى قفز إلى 22 طناً من الحشيش، و899 كيلوغراماً من الأفيون والهيروين خلال ستة أشهر فقط، وهي الفترة من أول يناير 1989 وحتى 31 يوليو من العام ذاته، ومعروف أن هذه الكميات المضبوطة، غالباً ما تمثل 10% فقط من كمية المخدرات التي نجح المهربون في إدخالها إلى البلاد».

في تلك الأثناء، كانت معركة استعادة مدينة طابا -الواقعة على الحدود المصرية الإسرائيلية والمطلة على خليج العقبة- وتحريرها من الاحتلال الإسرائيلي تجري على قدم وساق، لذلك طالب رئيس مجلس الشعب آنذاك رفعت المحجوب بأن تكون السيادة المصرية «كاملة» على منفذ طابا، لأن هذا المعبر المصري «يمكن أن يمثل ثغرة جديدة يتسلل منها الهيروين إلى شبابنا». المعنى نفسه قاله النائب البرلماني جمال أسعد عبد الملاك حينما صرح في مجلس «الشعب» في نهاية الثمانينيات: «الاختراق الذي حدث للشعب المصري بالمخدرات، حدث بعد الانفتاح فحسب، وبعد اتفاقية كامب ديفيد»، وفي مجلس الشورى (الغرفة الثانية من البرلمان المصري آنذاك)، قال رئيسه مصطفى كمال حلمي إن «ما يحدث الآن من انتشار المخدرات في بلادنا، هو أيضاً محصلة لتطبيق خاطئ لسياسة الانفتاح الاقتصادي».

كارثتان

تؤدي المقدمات المنطقية إلى نتائج منطقية، هكذا يقول العلم، فمما سبق يتضح أن مصر كانت متجهة إلى كارثة، وهو ما ظهر على لسان مدير مكتب تنسيق الكليات العسكرية، الذي صرح في 12 ديسمبر 1989، بأن اختبارات القبول بالكليات العسكرية، كشفت عن تدهور «مخيف» في المستوى الصحي والبدني لشباب مصر، بدليل أن نسبة غير اللائقين صحياً قفزت في 1989 إلى 75% من إجمالي المتقدمين، بزيادة 15% عن العام الذي قبله.

كارثة أخرى كشفها رئيس مجلس إدارة الاهرام الأسبق، الصحافي إبراهيم نافع، في كتابه «كارثة الإدمان»، الذي نقل عن خبير مصر لمكافحة المخدرات في منظمة الأمم المتحدة، اللواء جميل حنا مسيحة، قوله إن «جريمة تهريب المخدرات إلى مصر، هي في حقيقتها جريمة خيانة وطنية، وجريمة بيع لأدق أسرار الوطن العسكرية والاقتصادية، وفي جعبتي الكثير مما يؤيد ذلك بالأدلة الدامغة، سواء من ملفات الذين تورطوا في الجاسوسية، وكان الثمن هو المخدرات، أو من خلال محاولات العدو لخفض الروح المعنوية بين أفراد القوات المسلحة المصرية أثناء حربي 56 و67، وذلك بوصف قواتنا المسلحة بأنها جيش من الحشاشين».

ما قيل يتسق مع ما صرح به زكي بدر أمام مجلس الشعب عندما قال: «المخدرات وراء الكثير من جرائم خيانة الوطن، ووراء الكثير من الجرائم الغريبة والشاذة التي نسمع عنها الآن، والتي يرتكبها المدمن تحت تأثير الإدمان، أو لأجل إشباع حاجته إلى الحصول على المخدر، وبالتالي فإن المدمن لا تتمثل خطورته في ما يرتكبه في حق نفسه فحسب، إنما أيضاً في ما يرتكبه من عدوان على سلامة الوطن وأمنه، ومن الشجاعة أيضاً أن نقر معاً بأن الفئات التي ظهرت نتيجة الانفتاح، والتي تحصل على دخول هائل من دون عمل حقيقي، هي أول من يتمكّن من شراء المخدرات وترويجها».

نقرأ في كتاب «حرب المخدرات» الذي أصدرته «هيئة الاستعلامات» المصرية، كيف أن الهيئة رصدت أن رجال الحكومة المكلفين بحراسة الحدود أو الواقفين وراء الخطوط الخلفية في كل المواقع، هم أول من يحتفظون بأسرار الوطن ولذلك يتجه العدو أول ما يتجه إلى هؤلاء ليحاول إغراء بعضهم بواحدة من هذه الطرائق الثلاث:

الطريقة الأولى: هي الترويج لتعاطي المخدرات وتيسيرها وتهيئة مجالها، حتى يتاح الجمع بين عملاء العدو وبين من يريد الحصول منهم على معلومات، وحتى يصبح مستطاعاً تحت تأثير المخدرات الحصول منهم على الأسرار، التي تعرّض أمن الوطن للخطر، خصوصاً أن المدمن وقت احتياجه إلى المخدرات يكون مستعداً لأن يفرط في كل شيء حتى عرضه.

والطريقة الثانية: تتمثل في استدراج من يستطاع استدراجه للدخول في صفقات تهريب مخدرات عبر الحدود، فإذا ما أثمر الإغراء بالمال، انتقلت الصفقات بعد ذلك إلى هدفها الحقيقي، وهو التجسس على الوطن، ولعل أحد الأدلة على صدق ذلك، ما قرأناه على صفحات الجرائد المصرية في 11 يناير 1990 من أن العقيد محمد حسام الدين بديوي عندما كان قائداً لمخابرات حرس الحدود في منطقة القنال وشمال سيناء، رفض مليون جنيه «رشوة» مقابل تسهيله لدخول ثلاثة أطنان مخدرات إلى مصر.

أما الطريقة الثالثة: فهي استغلال عصابات التهريب في أعمال التجسس، مقابل معاونتها في عمليات تهريب المخدرات، وهو بالضبط ما قاله إيفال لافيف، المحرر في مجلة «هاعولام هازيه» الإسرائيلية حين قطع بأن «مخابرات إسرائيل تساعد، منذ سنوات طويلة، عملاءها على تهريب المخدرات من جنوب لبنان إلى الأردن ومصر».

طريق المخدرات

هذه المعلومات رغم أهميتها فإنها تكشف أحد جوانب القضية، وهو الجانب المصري. أما ما كان يجري في الجانب الآخر في إسرائيل، فقد تكفل الصحافي الفرنسي جاك ديروجي بكشفه للعالم كله في كتابه المهم «المافيا في إسرائيل». فقد عمل ديروجي، فترة طويلة، مراسلاً لمجلة «الإكسبريس» الفرنسية في تل أبيب، واستغل إقامته هناك للتغلغل في المجتمع الإسرائيلي والكشف عن جرائم ترتكب هناك بعيدا عن الأعين، فكان نتيجة ذلك أن طردته تل أبيب إلى خارج أراضي فلسطين المحتلة، ومنعت دخوله مجدداً.

يقول ديروجي في كتابه الوثيقة: «إذا كنت تريد أن تعرف الطريق الذي يسلكه الحشيش والكوكايين والهيروين حتى يصل إلى مصر، فيجب عليك أن تبدأ من شمال إسرائيل، تحديداً من المنطقة التي يسيطر عليها الآن سعد حداد في جنوب لبنان، حيث تنتشر مزارع الحشيش الشاسعة ومعامل صناعة الهيروين من الأفيون، ومن هناك تجتاز المخدرات الحاجز الذي اصطلح على تسميته بالجدار الطيب، إما عبر إسرائيل في الشاحنات القوية، وإما في إطارات المطاط التي تعلق على مؤخرة مراكب الصيد، لتأخذ طريقها سالمة في حراسة القوات الإسرائيلية إلى غزة أو تل أبيب، ومن غزة إلى بورسعيد، أو من تل أبيب إلى القاهرة، حيث الجنة الحقيقية لمهربي المخدرات الإسرائيليين التي نشأت في أعقاب التوقيع على معاهدة الصلح بين بيغين والسادات».

دخلت صحيفة «الأوبزرفر» البريطانية على الخط أيضاً، ونشرت في 19 نوفمبر 1986، تحقيقاً مصوراً لبعض ما يحدث في جنوب لبنان، قطعت فيه بأن «وادي البقاع رغم أن التنظيمات السياسية والعسكرية كافة، لها ما يمثلها فيه، فإن السيادة العظمى عليه في أيدي تجار المخدرات الذين يوفرون التمويل الدائم لنفقات الحرب الأهلية، منذ اندلاعها في لبنان».

وعلى لسان «دان جيت»، أحد عملاء مكتب مكافحة المخدرات الأميركي في قبرص، دللت «الأوبزرفر» أيضاً على أن الحرب الأهلية في لبنان «ساعدت على ازدهار تجارة المخدرات في وقت تفتت فيه البلاد، وتبددت فيه سلطة الدولة، على العالم السري لوادي البقاع، الذي نشأ به ما يزيد على 15 معملاً لاستخلاص الهيروين، وثمانية معامل أخرى في بعلبك، وعدد آخر من المزارع والمعامل، تقع بين زحلة وبعلبك، حيث يتم استخلاص الهيروين في بيئة قذرة للغاية، وسط حراسة كتائبية وإسرائيلية مشددة، خصوصاً بعد اجتياح إسرائيل جنوب لبنان في عام 1982».

وقالت جريدة «الجيروزاليم بوست» الإسرائيلية صراحة إن مصدراً إسرائيلياً رفيع المستوى يمثل إحدى الجهات الرسمية في الكيان الصهيوني، اعترف لها بأن «حجم المخدرات التي يتم تهريبها من جنوب لبنان إلى مصر، عبر إسرائيل يزيد على 700 طن سنوياً»، هكذا كانت إسرائيل تتفاخر بأن مخططها الاستخباراتي المخدراتي يحقق النجاح تلو النجاح في اختراق العقل المصري وتغييبه.

... يتبع

صمت حكومي
ثمة أكثر من إشارة وعلامة طوال عقد الثمانينيات عن الجهة التي تأتي منها المخدرات التي غزت الشارع المصري، لكن الحكومة المصرية أصمت السمع عن كل هذا، ورفضت أي اتهام يوجه إلى إسرائيل، فهذا وزير الداخلية زكي بدر، الذي اعترف أكثر من مرة بانتشار المخدرات في مصر، رفض توجيه أصابع الاتهام إلى إسرائيل.

فعندما وقف أحد نواب البرلمان المصري مندداً بانتشار المخدرات، قائلا إن «خطر المخدرات يتسرب إلينا عن طريق إحدى الدول الشرقية المجاورة لسيناء»، في إشارة إلى إسرائيل التي لم يصرح باسمها، هاج بدر وماج، فعاجله مؤكداً أنه «يقطع ألا خطر على مصر، لا من الدول الشرقية، ولا من الدول الغربية، وإنما الخطر منا وفينا»، وممن سماهم «بالخوارج» المسلمين، ومن بعض الدول الإسلامية واتهمهم صراحة تحت قبة المجلس، بأنهم هم، لا إسرائيل، الذين «يهربون المخدرات» إلى مصر، وإن اعترف بأن خطر المخدرات، سيظل يهدد أجيال الحاضر والمستقبل.

وبينما بدأ عقد التسعينيات بإطاحة زكي بدر وتعيين اللواء محمد عبد الحليم موسى وزيراً للداخلية، معلنا أن القضاء على المخدرات أولوية بالنسبة إليه، طالعتنا الصحف بخبر كالصاعقة. فقد نشرت صحيفة «الأحرار» المعارضة أن «أجهزة الأمن المصرية أحبطت محاولة فاشلة، قامت بها المخابرات الإسرائيلية، لتهريب مهرب المخدرات الإسرائيلي، يوسف طحان من سجن استئناف القاهرة، بعد فشل المحاولات الإسرائيلية في التفاوض مع مصر، لإصدار قرار بالعفو عنه».

هكذا عاد طحان وقضيته إلى الواجهة، مع أسئلة حول حقيقة دوره وطبيعة عمله، والجهة التي تقف خلفه وجعلته في مأمن من أن ينفذ فيه حكم الإعدام. ظلت الحكومة تتذرع بالصمت، لكن بقاء طحان في السجون سنوات طويلة، طرح مزيداً من الأسئلة التي ظلت معلقة بلا إجابة. لكن ما جرى في ما بعد حمل بعض الإجابات عن أسباب بقاء يوسف طحان في السجون من دون تنفيذ حكم الإعدام فيه.