لندن مدينةُ صيف مجازي، فهو لا يخلو من برودة، ولا يخلو من غيوم، ولا يخلو من مطر. تمنُّ عليك أياماً بلسعة الشمس ودفء العظام، وسعةِ الصحو، وطلاقةِ الأفق، حتى لتحسد النفس على إقامتك في أجمل مدن الأرض وأكرمها. لكنها سرعان ما تعاقبك على نعيمك بسماءٍ ممطرة قد تتواصل أياماً. حين استيقظ فجراً، ولتغريدة الطير فضلٌ في ذلك، أصحب الكمبيوتر، وعبر الإنترنيت أطلُّ، أول ما أُطل، على خبر الأنواء، ثم أخبار شقاء ابن آدم، ثم أنصرف إلى النفس مع القراءة والكتابة، وجديد الموسيقى وقديمها.

حين حدث أني ضمنت صحو الأيام القليلة السابقة، خططت لنشاطات عدة، منها رؤية معرض في "الـﮕاليري الوطني"، وحضور حفلين موسيقيين سأعرض لهما في حديث اليوم هذا.

Ad

"قاعة ويـﮕمر" Wigmore hall من أكثر قاعات العروض الموسيقية عراقة. بُنيت من وحي عمارة عصر النهضة عام 1899، وخُصت لـ"موسيقى الغرفة" والغناء الكلاسيكيين. سُمعتُها عالميةٌ اليوم، ومنها انطلقت شهرة نجوم موسيقى كثيرين من الحقلين. عادة ما أتابع نشاطها عبر نقل أسبوعي حي من راديو 3، أو أحضر عرضاً منها، إذا ما سمحت العافية والمناخ.

قبل أيام كنت مع غناء إسباني، بجذور شرقية. المغني Yanivd’OrK (مواليد ليبيا، طبقة صوت عليا لدى الرجال، تضاهي السوبرانو النسائي تُسمى countertenor)، يؤدي ضرباً من الغناء الإسباني/ اليهودي القديم، الذي لا يخلو من لمسة عربية، يُسمى Latino Ladino مع فرقة موسيقية خاصة. معظم الأغاني تنطوي على هاجس المنفي الجوال، الذي يميز الموسيقى اليهودية القديمة. كانت أغنية "سبعة طرق لطبخة الباذنجان" الغنية في دعابتها ولحنها من أكثر ما قدم إثارة. معظم الأغاني لعاطفة الحب: "افتحي الباب المغلق/ فما من إضاءة في شرفتك/ علّ الحب يرعاك،/ دعينا نغادر، روزا/ دعينا نغادر من هنا" أو للطبيعة:

"يا نهر اشبيليا،/ كيف لي أن أعبرك، دون أن تبتل أحذيتي..." أو للأسى:

"وحدة الليل مقفرةٌ جداً/ آه من موتي الوشيك/ روحي مفعمة بالحزن والألم/ لن تستريح أبداً، يا للحسرة،/ من هذه المعاناة المريعة".

في الليلة التالية حضرتُ عرضاً أوبرالياً، في نقل حي من "دار الأوبرا الملكية" إلى شاشة السينما. وسيلة رائعة، مستحدثة من سنوات، تتيح لك، أنت المتواضع الدخل، أن تحجز تذكرة لعرض أوبرالي، أو مسرحي يُقام في لندن، أو نيويورك.

السينما ليست بعيدة عن البيت، والشاشة تسع المَشاهد بتفصيل مثير، ومكبرات الصوت تُسلم الأذنَ كلَّ "لحظة صوتية" تُقبل من آلة أو حنجرة. ولك أن تأتي معك بنبيذك، وما يُشغل المذاق وقت الاستراحة. مُتعةٌ أجدها متكاملة. الأوبرا هي "ﭬيرتير"، للموسيقي الفرنسي ماسينيه (1842 - 1912)، صاحب أوبرا "مانون"، و"تاييس"، و"السِيد" وكثير من الرائع.

"ﭬيرتير" مستوحاة من رواية "آلام الشاب ﭬيرتير" الشهيرة لشاعر ألمانيا "ﮔوتة". ولعل أكثرنا يعرف قصة حب هذا الفتى الشاعر، الحالم، ومأساة انتحاره، فقد تُرجمت إلى العربية منذ سنوات. أحب "شارلوت" الطيبة، التي كانت أمينة لخطيبها المحترم "ألبيرت". تعاظم حبه بفعل تمنعها، على الرغم من استجابتها الدفينة لهذا الحب الذي يليق بقصيدة. كانت عاجزة عن كبح حبه، حبها، والوعد الأمين لخطيبها. كان "ﭬيرتير" نموذج الرومانتيكي، في ذروة هيمنة هذه الحركة الرومانتيكية في حقول الأدب، الفكر، الرسم والموسيقى، وكانت شارلوت نموذج الكيان المضحي.

موسيقى "ماسينيه" كثيرة الألحان، كثيرة الحلاوة. وفي هذه الأوبرا أسلم عناصرَ موسيقاه لدراما بالغة العنف، داخلية في الأبطال، وخارجية في الأحداث. ساعتان في لحظات موسيقية مشدودة لبعض، على أنها تبدأ بأغنيةٍ مستسلمة يحتفي فيها "ﭬيرتير" بالطبيعة: "أيتها الطبيعة، أسكرتِني بروائحك العطرة، أيتها الأم، الشابة أبداً، الفاتنة الصافية، وأنت أيتها الشمس، عمديني بأشعتك..."، وتنتهي به، وقد أطلق على نفسه رصاصة موته، يقول لـ"شارلوت"، وهي تعترف له بحبها الذي قمعته داخلها، بأنه مليء بالسعادة، ويوصيها أن تدفنه بين شجرتي ليمون في أقصى مقبرة القرية، لأن امرأة ستزوره بين الحين والحين سراً، لتباركه بدموعها.

عرض رائع، في قيادة الأوركسترا (الإيطالي أنتونيو ﭙاﭙّانو)، وفي الأداء الغنائي: شارلوت (الأميركية جويْس ديدوناتو/ ميتسو سوبرانو)، وﭬيرتير (الإيطالي فيتوريو ﮔريـﮔولو/ تينور).