عاد عماد حمدي إلى تألقه الفني، بعدما ساعده صديقه المخرج عز الدين ذو الفقار في تجاوز أزمة طلاقه من شادية. رجع فتى الشاشة إلى التركيز في أفلامه السينمائية التي كان يمضي وقتاً طويلاً في تصويرها، فلم يكن يدخل منزله إلا قبل منتصف الليل بقليل، ويخرج في الصباح الباكر، وهي مرحلة بدأت فعلياً بـ}إني راحلة} مع عز الدين ذو الفقار، في تجربة جمعت حمدي بالأديب يوسف السباعي، صاحب الرواية المأخوذ عنها الفيلم.

لم يكن بين السباعي وعماد حمدي أي سابق معرفة، سوى حديث سمعه فتى الشاشة عن السباعي وقراءة سابقة لأحد أعماله، لكنه تلقى اتصالاً هاتفياً من الأديب الشهير، الذي طلب مقابلته قبل البدء بتصوير مشاهد {إني راحلة}، وهو أمر لم يكن مألوفاً في السينما، فالاتفاق على تفاصيل الشخصية عادة ما يتم بين الممثل والمخرج، لكن حمدي حرص على التوجّه إلى السباعي للحديث عن الشخصية التي سيجسدها في الفيلم.

Ad

كانت الجلسة أكثر من تعارف بين عماد والسباعي، فكلاهما شعر أنه يعرف الآخر منذ سنوات، وكانت بداية صداقة استمرت لسنوات. لم يشعر عماد بأن السباعي يريد التدخل في عمله، فالأديب الكبير لم يكن يرغب سوى في الاستماع إلى وجهة نظر عماد حمدي عن كيفية تعامله مع الشخصية، ويتحدث إليه عن ملابسات كتابته وتصوره لها على الشاشة، فكانت جلسة مثمرة، رغم أنها لم تتكرر خلال فترة التصوير، إلا في العرض الأول للفيلم عندما أبدى السباعي انبهاره بأداء عماد حمدي.

في {إني راحلة}، يظهر عماد حمدي في شخصية الضابط أحمد الذي يحبّ عايدة التي تجسّد دورها مديحة يسري، ابنة الأثرياء التي يجبرها والدها على الزواج من سليل العائلات {توتو بيه} (رشدي أباظة)، وبدوره يخون زوجته، بينما تموت الفتاة التي يتزوج بها الضابط أحمد، ويلتقي الحبيبان مجدداً. لكن هذه التفاصيل كافة تسردها عايدة من خلال رسالة طويلة تكتبها وحبيبها يرقد إلى جوارها في المستشفى بعدما صعدت روحه إلى بارئها.

تقول مديحة يسري عن مشاركة عماد حمدي في بطولة الفيلم معها، إنها كانت مفاجأة سارة من المخرج عز الدين ذو الفقار، لأنها تحبّ التمثيل أمام حمدي بشدة، وتجد بينهما {كيمياء} أمام الكاميرا، لا تعرف تفسيرها، بالإضافة إلى أن الجمهور يحبّ تواجدهما على الشاشة سوياً. وهي كمنتجة للفيلم، لم تتدخل في اختيار فريق العمل، كما تذكر، وكانت تترك هذه المهمة للمخرج عز الدين ذو الفقار، فهو لم يكن يسمح لأحد بالتدخل في عمله، وهي لا تتجاوز حدودها كمنتجة في اختيار وترشيح الأبطال، وتفصل جيداً بين عملها كمنتجة وكممثلة للفيلم.

يتذكر عماد في مذكراته موقف ابنه نادر عندما ذهب لمشاهدة الفيلم برفقة والدته، فظلّ يصرخ عندما شاهد لقطة وفاته أمام الكاميرا، وراح يردد {بابا عايش... بابا عايش} بشكل هيستري ولم يتوقف عن الصراخ بعد انتهاء الفيلم، إلا مع اصطحاب والدته له إلى منزل والده، وبمجرد أن شاهده توقف عن البكاء واحتضنه بشدة. كان صدق الأداء الذي قدّم به عماد حمدي الشخصية أحد أسباب نجاحه في العمل وتعايش الجمهور مع مأساة الضابط أحمد.

صداقة

حظي نجاح حمدي في أداء الدور الرئيس في فيلم {إني راحلة} بإعجاب الروائي يوسف السباعي، الذي وجد في فتى الشاشة القدرة على التعبير عن شخصيات روايته، لذلك كان اتفاقه مع مخرج العمل عز الدين ذو الفقار على اختيار حمدي لأداء دور البطولة في فيلم {بين الأطلال}، المؤخوذ عن رواية بالاسم نفسه للسباعي. وقفت إلى جانبه في البطولة سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، وخرج الفيلم إلى النور في عام 1959، ليحقق نجاحاً جماهيرياً عريضاً، فاستمر عرضه لنحو شهرين على شاشات السينما، وهي فترة كبيرة مقارنة بباقي الأعمال السينمائية آنذاك.

تدور قصة الفيلم من خلال شخصية الكاتب محمود فهمي، التي جسدها عماد حمدي، فهو الرجل الذي يقابل تصرفات ابنة عمه وزوجته مريضة القلب بكل حبّ حتى عند سكبها القهوة على الأوراق التي سهر الليالي لكتابتها، ورغم مرضها فإنها تكون حريصة على أن تنجب له الطفل الذي يتمناه فتموت خلال الولادة. تولد الطفلة وتربيها حبيبته. وتخرج الفتاة إلى الحياة، وهي معتقدة بأن حبيبة والدها هي أمها، لكنها تعرف الحقيقة لاحقاً من خلال المذكرات التي تمنحها لها منى لقراءتها.

وتأكيداً على الصداقة المتينة، طلب يوسف السباعي مجدداً مقابلة عماد حمدي قبل البدء بالتصوير. اجتمع الممثل والأديب معاً لمناقشة تفاصيل الشخصية، وظلّ حمدي يتذكّر هذه الجلسة حتى وفاته، لأنه وجد خلال نقاشه مع السباعي تفاصيل الشخصية كما رسمها صاحبها، الذي كان حريصا أيضاً على زيارة الأستوديو خلال التصوير أكثر من مرة، وكان يبدي ملاحظاته بهدوء للمخرج ولعماد حمدي ولبقية أبطال العمل.

يقول عماد عن السباعي إنه شخصية بارعة على المستوى الأخلاقي. {عندما يكون لديه ملحوظة على العمل ولا يريد أن تظهر كأنها تدخل منه في أداء الممثل أو المخرج، يتحدث بعد انتهاء التصوير مشيداً بالمشهد الذي تم تصويره، ويبدأ بعدها في إبداء ملاحظته}، وهو أسلوب كان يفهمه عز الدين ذو الفقار، ولا يجد حرجاً فيه، لأن السباعي يكون لديه تصور أحياناً قد يكون خطأ، لكن بعد مناقشة مع ذو الفقار الذي يوضح موقفه ورؤيته الإخراجية من تقديم المشهد بهذا الشكل، يقتنع السباعي.

الخطايا

رغم النجاح المدوي الذي حصده عماد حمدي في أدوار البطولة، فإنه وجد متعة في التعاون مع الأجيال الجديدة، كفرصة للتواصل بين أجيال الفنانين المختلفة، مع الاحتفاظ بالتقدير لخبرة الكبار، فكانت مشاركته مع حسن الإمام في فيلم {الخطايا} إنتاج (1962)، نقطة تحوّل جديدة في مسيرته الفنية. كان دور الأب الذي جسده في العمل مناسباً لشخصيته في الحقيقة، وجمعته التجربة هذه مع المطرب الشاب الأكثر نجاحاً آنذاك عبد الحليم حافظ، والممثل الصاعد حسن يوسف، فيما قامت بدور الأم رفيقة درب حمدي، مديحة يسري.

منذ اليوم الأول للتصوير، لم يكن ثمة حديث بين فريق العمل سوى مشهد الضرب الذي سيصفع فيه عماد حمدي عبد الحليم حافظ على وجهه، وهو مشهد يمثّل نقطة تحول كبيرة في أحداث الفيلم. وكانت مديحة يسري أكثر فنانة تخشى هذا المشهد، فالعلاقة التي جمعتها مع المطرب الشاب كانت أشبه بعلاقة الأم بابنها.

كانت صعوبة المشهد في مدى تقبّل الجمهور لفكرة صفع فنانهم المحبوب للمطرب الأفضل. في يوم التصوير، اتفق المخرج حسن الإمام مع عماد حمدي على أن ينفذ مشهد الضرب بطريقة تمثيلية، على أن يتم إخراجه بطريقة تجعله يظهر كمشهد عنيف. لكن عبد الحليم حافظ طلب من عماد حمدي أن يضربه بعنف، وأن يكون المشهد قوياً لأهميته في الأحداث، وهو ما قابله فتى الشاشة بالتردد.

عماد: لكن يا حليم ما ينفعش.

عبد الحليم: يا أستاذ، قلم يفوت ولا حد يموت. المهم المشهد يبقى حقيقياً.

عماد: بس أستاذ حسن قال ممكن نتصرف.

عبد الحليم: لا الضرب الحقيقي هيبقى أفضل وبعدين هعتبرك أبويا الله يرحمه اللي بيضربني.

كانت مديحة يسري تجلس على مقربة منهما تستمع إلى حديثهما، وطلبت من صديق عمرها ألا يستجب لطلب حليم. لكن الأخير تمسك برأيه، فقرر المخرج حسن الإمام حسم الأمر بأن تكون الصفعة حقيقية كما يرغب عبد الحليم، وانطلق التصوير.

صفع عماد حمدي عبد الحليم على وجهه بشدة، ولم يضطر المخرج حسن الإمام إلى إعادة تصوير المشهد، الذي تحوّل إلى أشهر صفعة في تاريخ السينما المصرية. لكن ما إن قال المخرج {ستوب} معلناً انتهاء المشهد، حتى انفجرت مديحة يسري صارخة في وجه عماد حمدي، وظلّت تضربه على كتفه بسبب عنفه في صفع حليم، الذي كانت تعتبره بمثابة ابنها، بينما تسبب المشهد في غضب كثير من الجمهور أثناء مشاهدة الفيلم من فتى الشاشة لصفعه حليم الذي عانى آثار الصفعة لأيام عدة.

دقة قلب

أخفقت أعمال حمدي المتلاحقة التي قام ببطولتها والمشاركة فيها في أن تنسيه الحب. صحيح أنه اتخذ قراراً بإغلاق قلبه والتوقف عن الغراميات، لكن الوحدة التي عانها في منزله بعد انتهاء التصوير، جعلته يفكر في الزواج مجدداً. ثم أصبح الأمر ضرورة ملحة بعدما شاهد الفنانة الشابة نادية الجندي التي شاركته في بطولة فيلمه الجديد {زوجة من الشارع}.

أخرج الفيلم حسن الإمام وقام ببطولته كل من كمال الشناوي وهدى سلطان. خلال التحضير للتصوير، لم ير فتى الشاشة نادية الجندي، بل سمع اسمها يتردد أكثر من مرة باعتبارها فنانة شابة وموهوبة، وكانت المشاهد الأولى التي سيراها فيها ضمن مشاهد خارجية سيصورونها في قرية ريفية تتبع محافظة الدقهلية.

بمجرد أن رأها فتى الشاشة، شعر بانجذاب شديد إليها، ليس إعجاباً بجمالها ورشاقتها فحسب، ولكنه لم يعرف سبباً لهذا الانجذاب سوى أن قلبه بدأ يدق مرة أخرى، ولم يهتم بالفارق العمري الذي يصل إلى 40 عاماً، فهي الفتاة المفعمة بالحيوية ويتردد اسمها على لسان جميع الموجودين باعتبارها موهبة قادمة إلى السينما المصرية، لكن تحتاج إلى الخبرة ومزيد من الوقت حتى تظهر موهبتها الفنية.

بحكم المشاهد المشتركة التي جمعت بينهما، كان عماد حمدي حريصاً على توجيه نادية الجندي وتقديم النصائح لها، فزاد اقترابهما من بعضهما بعضاً، وتعلقت هي به رغم الفارق العمري بينهما، وبدأت بينهما قصة حب من نظرات وجلسات عمل طويلة، تحولت تدريجياً إلى دخول كل شخص منهما في حياة الآخر بشكل كبير. شعرت نادية الجندي كما وصفت، في تصريحاتها لاحقاً، هذه الفترة بأنها وجدت الأب والحبيب الذي نجح في احتوائها وعوضها عن غياب والدها، فيما شعر عماد بأنه وجد الحب الذي يعيده إلى أيام الشباب والصبا مع فتاة مليئة بالحيوية والنشاط.

أيام قليلة وتحوّل الحب بين عماد ونادية إلى حديث جميع العاملين في موقع التصوير، فعلاقة بين الفنان القدير والممثلة الشابة لم تعد علاقة تلميذة تحرص على اكتساب خبرة من أستاذ، بل أصبحت حباً صريحاً وهو ما ظهر في تواجدهما معاً طوال الوقت تقريباً خلال التصوير، وقبل أن ينتهي الفيلم كانت نادية الجندي هي الزوجة الثالثة لعماد حمدي.

وعندما عادا إلى القاهرة، توجهت نادية الجندي إلى منزل عماد حمدي في الزمالك، حيث عاشت معه بعد زواجهما، وبعد عام رزقت منه بابنهما الوحيد هشام، الذي ملأ حياة عماد حمدي مجدداً، وأعاد إليه شبابه وذكريات طفولة ابنه نادر. لكن الحياة لا تسير دائماً في سعادة، فكان على موعد مع أزمات جديدة. ماذا حدث؟

الوقوف على خشبة المسرح

لم يكن عماد حمدي خاض تجربة المسرح منذ احترافه التمثيل في السينما، لكن ظلّت لديه الرغبة في الوقوف على خشبته. في تلك الفترة، كان المخرج السيد بدير تولى إدارة مسرح التلفزيون، والذي بدأته فرقه في الخروج إلى النور تباعاً والسيطرة على فترة الستينيات بتقديمها أعمالاً ناجحة عدة. هنا، استعاد عماد حمدي علاقته بالسيد بدير مجدداً، إذ كانت تربطهما علاقة صداقة قديمة منذ أيام فرقة {أنصار التمثيل والسينما للهواة}.تحدث بدير إلى عماد حمدي عن فكرة أن يكون بطلاً لأحد العروض التي يقدمها مسرح التلفزيون، الذي بدأ بإنتاج مجموعة عروض مسرحية جديدة بهدف جذب الجمهور، وفعلاً اتفق معه على بطولة مسرحية {خان الخليلي} التي أخرجها حسين كمال عن رواية بالاسم نفسه لنجيب محفوظ. وتوالت بعدها الأعمال، فقدم على مسرح التلفزيون مسرحيتين آخريين هما {الرجل} و«الطريق} أخرجها محمود الشريف، فيما أخرج تجربة حمدي المسرحية الثالثة {خطيئة حواء} المخرج جلال الشرقاوي.

حقّق عماد حمدي نجاحاً كبيراً في المسرحيات التي قدمها لكنه لم يتمكن من مرافقة العروض في المحافظات والسفر معها بسبب ارتباطاته السينمائية في القاهرة، والتي جعلته من الصعب عليه السفر لمرافقة الفرقة المسرحية في عروضها، فكان يتم الاستعانة ببطل آخر يقدم هذه الأدوار. لكن نجاحه على المسرح شجعه على تكرار التجربة من خلال مسرح القطاع العام عبر مسرحية {شاهين ما مات} التي أخرجها كمال ياسين، وكتبها مؤسس المسرح العربي توفيق الحكيم. لكن هذه المسرحية لم تحقق نجاحاً يذكر بسبب توقيت عرضها الذي تزامن مع موسم الامتحانات، وتوقفت المسرحية بعد أيام قليلة من انطلاقها فالجمهور لم يتجاوز حاجز الـ 20 شخصاً.

إصابة عمل

غاب عماد حمدي عن المسرح لأكثر من عقد، قبل أن يعيد يوسف بك وهبي تكوين فرقته المسرحية {رمسيس}، فانضم إليها فتى الشاشة حيث قدمت الفرقة عروضها في عدد من البلاد العربية، وتحمس حمدي للتجربة لأنه سيرى جمهور المسرح في الوطن العربي للمرة الأولى، وسيرى رد فعلهم وهو موجود فعلاً على خشبة المسرح، فكانت مسرحية {راسبوتين} التجربة التي اختارها يوسف وهبي لتكون باكورة إعادة فرقته المسرحية مجدداً.

جسّد عماد حمدي في العرض شخصية خادم راسبوتين، الذي يقوم بدوره يوسف بك وهبي. لكن في أحد العروض بالأردن، اندمج وهبي في العرض فألقى بحمدي على الأرض بشكل عنيف، ليشعر فتى الشاشة بالآلام تجتاح جسده، ومن حسن حظه أن هذه الليلة كانت الأخيرة في الأردن، فبدأ بتناول المسكنات لأجل السفر مع الفرقة إلى الكويت في اليوم التالي، حيث كان يفترض أن يبدأ جولة العرض التالية.

وصل فتى الشاشة إلى الكويت، لكنه كان يعاني آلاماً شديدة، لدرجة أنه لم يشعر بنفسه بعد إنهاء إجراءات وصوله، إلا وهو في المستشفى يخضع للعلاج، حيث ضمّد الطبيب المعالج جسمه بلفافات محكمة كي لا يتأثر بالحركة، فقد أصيب بتمزق شديد في الأربطة. وبعد يومين، كان قد تعافى بشكل كامل بفضل طبيب مصري التقاه مصادفة في الكويت، وفحصه وأعطاه حقنة مسكنة حتى يتمكن من الوقوف على المسرح لتقديم العرض لجمهور الكويت.

التفاصيل في الحلقة المقبلة