سعد محمد حمدان الرطيل، مصري له سبعة أبناء، ولدوا مثله على أرض مدينة العريش في صحراء سيناء ورمالها الذهبية، ومثله فقدوا الأمل في أن تفرج عنه إسرائيل، فعقوبته كانت الأشغال الشاقة المؤبدة، والتهمة قتل خمسة جنود إسرائيليين، وبتر ساق قائدهم وكسر عموده الفقري. لكن فجأة أفرجت عنه سلطات العدو الصهيوني، وارتبط اسمه بقضية مهرب المخدرات الإسرائيلي يوسف طحان، الذي كان مسجوناً في مصر منتظراً تنفيذ حكم الإعدام، فكيف تقاطعت المصائر بين الرطيل وطحان؟

يعود أول الخيط إلى هزيمة الخامس من يونيو 1967، وما بعدها من أيام سوداء احتلت فيها إسرائيل كامل سيناء، وغيرها من أراضٍ عربية، كانت من ضمن ما سقط مدينة العريش، وفيها كان يعيش الرطيل على أمل أن يرى الأرض المصرية حرة مجدداً. كان يخشى من سياسة إسرائيل ومخططاتها لاقتلاع البشر من جذورهم، وتفريغ المنطقة بين مدينتي رفح والعريش من المصريين، تمهيداً لإعادة صبغها بالصبغة الإسرائيلية، وعينت تل أبيب لهذا الهدف شخصاً يسمى «أوفر» بدرجة نائب وزير، بصلاحيات واسعة، لتنفيذ مهمة التخطيط والإشراف على عملية شراء الأراضي من أهالي العريش ورفح، بحجج مختلفة: تارة كان يتم الاستيلاء على الأراضي بحجة تعبيد الطريق بين المدينتين، وطوراً بدعوى إقامة منطقة عسكرية محصنة طبيعياً في هذه المنطقة، وحاجة الجيش الإسرائيلي إلى إنشاء أحد المطارات الحربية التي بدأت قوات الاحتلال في بنائها آنذاك.

Ad

مع تنوع أساليب الاحتلال الإسرائيلي لإجبار بدو سيناء على بيع أراضيهم، أحس سعد الرطيل ورفاقه بأن مأساة فلسطين يمكن أن تتكرّر ثانيةً فيها، فالرغبة الإسرائيلية كانت واضحة في إعلان نيتها بناء مستوطنات في سيناء ودمجها بالكيان الصهيوني. لذلك بدأ الرطيل في توعية الأهالي لخطورة ما يقدمون عليه من بيع للأراضي، ولم يكن وحده في هذا المضمار، إذ ساعده في البداية الحاج سليم أبو طويلة، أحد أعيان «أبو طويلة»، واستطاع أن يحبط للإسرائيليين صفقات مشبوهة عدة، فطاش صوابهم وقتلوه. وحينما حاول شقيقه زايد سليمان أن يكمل ما بدأه، قتلوه أيضاً.

ورغم نجاحات سعد الرطيل ورفاقه في إحباط عمليات شراء الصهاينة أراضي أهالي سيناء، فإن سياسة الاغتيال من قوات الكيان الصهيوني، أجبرت الرطيل ورفاقه على حمل السلاح والتحوّل إلى المقاومة المسلحة ضد قوات الاحتلال، فشنوا عمليات فدائية عدة ضد مواقع العدو الإسرائيلي، وأماكن تجمعه، شك الإسرائيليون في ارتباط سعد الرطيل بها، فقبضوا عليه مرتين. لكن سرعان ما أفرجوا عنه لفشلهم في العثور على ما يدينه ويثبت تورطه في مهاجمة قوات الاحتلال.

انخرط الرطيل في العمليات الفدائية بكل ما يملك، كان يبذل جهده في التخفي عن أنظار قوات الاحتلال الإسرائيلي، كان يقود الجماعات الفدائية بنفسه. وفي إحدى المرات، خرج على رأس مجموعة مكونة من خمسة أفراد، بغرض زراعة الألغام في الطريق الذي تسلكه السيارات العسكرية الإسرائيلية، وهي ذاهبة للتزود بالوقود. نجحت العملية وراقب الرطيل إحدى سيارات العدو الصهيوني وهي تنفجر في الهواء بكل من فيها. لم تعترف إسرائيل آنذاك، إلا بقتل خمسة جنود، وبتر ساق قائدهم وهو ضابط برتبة نقيب، وكسر عموده الفقري. كان ذلك في أحد أيام أكتوبر 1975، إذ لم تكن قوات الاحتلال الإسرائيلي قد انسحبت منها بعد. انتهت العملية مكللة بالنجاح. لكن الرطيل لم يكن يعلم أن هذه العملية تحديدا ستؤدي به إلى غياهب السجن.

بعد انتهاء العملية، توجه أحد أفراد المجموعة إلى لبنان، حيث انضم إلى إحدى المنظمات الفلسطينية هناك وشارك معها في عمليات فدائية عدة ضد إسرائيل. في إحدى هذه العمليات، أصيب الرجل ووقع أسيراً في أيدى الصهاينة، وراحوا يتفننون في تعذيبه حتى خارت قواه، واعترف (تحت قسوة الإرهاب) لهم بكل ما يعرفه حتى عملية "الألغام” التي زرعها مع سعد الرطيل في العريش.

اعتقال

في الثانية من صباح 29 أغسطس 1976، استيقظ سعد الرطيل من نومه مذعوراً على ركلات أحذية الصهاينة في ظهره، استيقظ على صراخ أطفاله وتحطيم أثاث منزله. نسفوا المنزل، وتركوا أسرته في العراء، فيما اقتادوه في طابور طويل من الجنود والسيارات المدرعة إلى مدينة العريش، وقذفوا به في زنزانة موحشة تحت الأرض في مقر القيادة العسكرية الإسرائيلية بالمدينة.

في المعتقل، ما إن وقعت عينا الرطيل على الشخص الذي كان معه في عملية زرع الألغام، حتى أيقن بأنه هو من اعترف عليه وعلى بقية زملائه، وحينما حاول هذا الشخص أن يغالب آلامه ويُفهم الرطيل في وجود الإسرائيليين بأن لا فائدة من الإنكار، ولا مفر من الاعتراف، ليرحمه ويرحم نفسه من جحيم العذاب المنتظر، تدفقت كل صلابة الدنيا في عروق الرطيل وأنكر، حتى معرفته بذلك الشخص.

أمام إصرار الرطيل وتمسكه بموقفه، انهالت قوات الاحتلال عليه ضرباً وركلاً، بعد أن جردوه من ملابسه وراحوا يتبادلون عليه صنوف العذاب، ما بين ضرب وصلب وصعق بالكهرباء، إلى الحد الذي لم يعد في جسده موضع واحد لم يسل منه الدم. ذلك كله من دون أن يعترف بأي شيء. لذلك قرروا اقتياده إلى سجن غزة المركزي، وقذفوا به في الزنزانة رقم (24)، وبشقيقه في الزنزانة رقم (18)، ثم اقتادوه مجددا| إلى سلخانة التعذيب.

أخرج جنود الصهيونية نوازعهم المريضة كافة على جسد الرطيل الأسير. كانوا يضعون رأسه في كيس بلاستيك، مغلف من الداخل بالشحم والقطران، فإذا ضاق نفسه، وأراد استنشاق هواء نقي، قذفوا رأسه بشدة إلى الجدار، وهو لا يرى شيئاً، فيتمزق الكيس ويسيل الدم من رأسه، ليختلط بالشحم والألم. أجبروه على رفع كرسي أو طاولة أو قطعة أثاث ثقيلة الوزن لساعات طوال، كان كأطلس البطل الأغريقي الأسطوري يحمل الدنيا كلها. ولكن رغم صلابته وإرادته الحديد التي أذهلت الأعداء، كانت لجسده متطلبات، فكان يسقط مغشياً عليه من شدة الإعياء.

استخدم جنود الصهيونية براميل الماء البارد في ذروة الشتاء القارس لتعذيب الرطيل، قيدوه بالأسلاك والجنازير على صليب. أثر التعذيب فيه حتى انخلعت كتفه اليسرى، وتقطعت شرايين يديه. ولم يشفع له ذلك، إذ جرب الإسرائيليون معه وسيلة أخرى، تتمثل في محاولة الالتفاف حوله وخداعه، عبر دس أحد الأشخاص لملازمته في المعتقل، والذي ادعى أنه أحد المظلومين، وحاول أن يقدم المشروبات للرطيل وهرب له السجائر، أملاً في الحصول على ثقته وإجباره على الاعتراف. لكن الرطيل لم يستسلم ولم يعترف بشيء، فطاش صواب الإسرائيليين أكثر، وحطم أحد الضباط المسؤولين عن التحقيق معه أسنانه.

مع قلة الأدلة وعدم اعتراف الرطيل، تم تقديمه مع بقية رفاقه إلى محاكمة صورية، وجاء الحكم عليه بالسجن لمدة 25 سنة، وعلى شقيقه بست سنوات. وما بين سجن غزة، وسجن الرملة، وسجن عسقلان، راح الإسرائيليون يتفننون في تعذيبه كل يوم، تارة بالضرب والصلب والصعق، وطوراً بتشكيكه في اهتمام حكومته المصرية بأبنائها السجناء في إسرائيل، خصوصاً بعد إتمام عملية الانسحاب الإسرائيلي من سيناء.

لكن الواقع أن المخابرات الإسرائيلية هي التي كانت تعترض على كل عرض تقدمه الحكومة المصرية إلى تل أبيب للإفراج عن سعد الرطيل. حتى أن كثرة إلحاح الحكومة المصرية في طلبه، أكدت اعتقاد الإسرائيليين بأنه شخصية مهمة لدى السلطات المصرية، تفوق ما هو معلن عن دوره في المقاومة السيناوية، فراحوا يتعمدون عدم الإفراج عنه والتمسك به للضرورة.

إفراج مفاجئ

مع استمرار حبس الرطيل لنحو 12 سنة في السجون الإسرائيلية من دون أي أمل في الخروج قبل انتهاء مدة عقوبته التي يتبقى منها 13 عاماً، أفرجت السلطات الإسرائيلية عنه فجأة من دون أسباب في 6 أغسطس 1987، ليعود إلى أهله وعشيرته في سيناء المصرية، وسط فرحة الجميع ودهشتهم من الإفراج الذي جاء بلا أية مقدمات. في إثر ذلك، تفجّر الكلام عن إمكان حدوث مبادلة مع مصر بأحد جواسيس إسرائيل مقابل الإفراج عن الرطيل، وكان الحديث يدور آنذاك عن مهرب الهيروين الإسرائيلي يوسف طحان والمسجون في مصر.

لم ينف الرطيل معرفته بقضية طحان والحديث الدائر حول مبادلتهما، قال لي: "سمعت عن الطحان فعلاً خلال اعتقالي في السجن الإسرائيلي، وسمعت أيضاً أن الإسرائيليين يحاولون مع مصر للإفراج عنه في مقابل الإفراج عني. وحينما فاتحني الإسرائيليون في ذلك، قلت لهم إنني أرفض مبادلتي بمجرم ومهرب مخدرات. وقلت أيضاً لتكن مبادلتي مع الجواسيس الصهاينة الأربعة الذين قبضت عليهم السلطات المصرية عام 1986 مع السياح الفنلنديين. وإذا كانت الحكومة المصرية قد بادلتني فعلاً مع يوسف طحان، فهذا شأنها وحدها، وإن كنت أراه خطأ كبيراً لا أستطيع أن أجزم بحدوثه”.

لم يجزم الرطيل نفسه بواقعة الإفراج عنه مقابل الإفراج عن طحان، فهو لا يعرف ما إذا كانت الحكومة المصرية أفرجت أصلاً عن طحان. في المقابل، التزمت الحكومة المصرية الصمت. لم تخرج القاهرة لتوضح كيفية الإفراج عن الرطيل، وما هو المقابل الذي حصلت عليه إسرائيل، فلا يمكن تصور أن الكيان الصهيوني يفرط في شخص يعتقد أنه على صلة بالمخابرات المصرية. لكن القاهرة لم ترغب في الحديث، ولا في كشف حقيقة ما حدث، رغم أن المسؤولين في الكيان الصهيوني فاتحوا الرطيل في عملية الإفراج عنه مقابل طحان.

ما سر اهتمام إسرائيل بالإفراج عن هذا المجرم بالذات رغم أن في السجون المصرية كثيراً من السجناء الإسرائيليين، سواء لتجسسهم على مصر، أو لاتهامهم بالسرقة، والاحتيال على الباعة وأصحاب المحلات، أو لضبطهم يروجون الدولارات "المزيفة”، أو لإدانتهم بتهريب المخدرات، وآخرهم ذلك المهرب الإسرائيلي الذي قالت جريدة "الأخبار” في 15 يناير 1990 بأن المستشار عبد اللطيف عبد الحق رئيس محكمة جنايات السويس، حكم عليه "حضورياً” بالسجن، وبالأشغال الشاقة لمدة عشر سنوات، لاتهامه بجلب 800 غرام هيروين، و15 تربة حشيشة إلى منطقة دهب في سيناء.

صحيح أن إسرائيل بذلت الجهود نفسها التي سبق أن بذلتها لأجل الإفراج عن يوسف طحان، لكنها هذه المرة جاءت لأجل الإفراج عن المجرمين الإسرائيليين بدوي موسى جولاني، ويعقوب مزراحي، اللذين وصفهما رئيس إدارة مكافحة المخدرات في مصر، على صفحات الجرائد، بأنهما من أخطر مهربي المخدرات في الشرق الأوسط، وأنهما هاربان من حكم سابق بالإعدام، لتهريبهما 18 طناً من الحشيشة والهيروين إلى مصر داخل مخابئ سرية على ظهر الباخرة "ريفي ستار” وعبر ميناء نويبع. وبعد أن وقعا، أخيراً، في يد السلطات المصرية قالت صحيفة "أخبار اليوم” في 26 أغسطس 1989 إن الشرطة الإسرائيلية طلبت من مدير إدارة مكافحة المخدرات في مصر، اللواء محمد فتحي عيد، "استرداد ملف القضية لمحاكمتهما في إسرائيل”. وأضافت "أخبار اليوم” أن مدير مكافحة المخدرات "عرض فعلاً الطلب الإسرائيلي على النائب العام لإبداء الرأي فيه”.

وسط هذه الغيوم كافة، ظل السؤال الأساسي يطرح نفسه: ما مصير يوسف طحان؟ وهل تم الإفرج عنه فعلاً؟ أم أنه ظلّ قابعاً في السجون المصرية؟ وإذا كان في السجن فعلاً، فلماذا لم يتم تنفيذ حكم الإعدام فيه؟

... يتبع

تجسّس في ظلّ السلام
لم تلق إسرائيل السلاح أبداً، ولم تعلن يوماً أن مصر خرجت من قائمة الأعداء، فالسلطات الإسرائيلية كانت ولا تزال تعتبر مصر على رأس قائمة أعدائها. ورغم توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في مارس 1979، شهد عقد الثمانينيات طفرة في عدد القضايا التي تورط فيها عملاء إسرائيل في مصر، سواء في عمليات تخابر أو إدخال مخدرات إلى البلاد بهدف تدمير الشعب المصري، الذي كان ولا يزال الهدف الأسمى لسياسة الكيان الصهيوني، فلم تكن قضية يوسف طحان فريدة من نوعها.

قضايا عدة في هذا المجال حدثت في ظل معاهدة السلام. نجد في حقبة الثمانينيات قضية ضبط نائب مدير المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة، إبراهيم شامير، ومعه مجموعة من العاملين بالمركز، وهم يهربون 253 كيلوغراماً من مخدر الهيروين، عبر محاولة إدخالها من مطار القاهرة الدولي، أثناء رحلة سياحية لهم مع السفير الإسرائيلي مشيه ساسون في 24 أغسطس 1987. آنذاك، تدخل السفير لإنهاء الموقف، وظلوا في أماكنهم في المركز من دون محاكمة. واتضح أن شامير مجند لصالح المخابرات الإسرائيلية وجاء إلى مصر لتكوين شبكات للتجسس، وتهريب المخدرات، وتهريب الدولارات المزيفة، ونشر الأوبئة، والعقاقير الضارة، كالإيدز وعقار الإجهاض الفوري.

ولا تخلو قضايا التجسس في هذه الفترة من الجنس والمخدرات، إلا أن قضية فارس مصراتي وابنته فائقة، فاقت غيرها من قضايا. في عام 1992، أي بعد 14 عاماً من معاهدة السلام، ضبطت أجهزة الأمن المصرية جاسوساً إسرائيلياً ومعه ابنته داخل شقة مفروشة في حي النزهة بمصر الجديدة، فجر أحد أيام فبراير عام 1992. اصطحبت الشرطة بواب المنزل إلى الشقة، وعندما قرعوا جرس الباب ولم يفتح أحد، كسروه فوجدوا فائقة في وضع مريب مع أحد الشباب، ونفت أنها تعرف مكان والدها. لكن رجال المباحث لاحظوا كسراً في شباك خلفي للشقة، فتوجهوا إلى أسفل حيث وجدوا فارس مصراتي ملقى على الأرض ومصيباً بكسر في ساقه.

اقتيد الجميع للتحقيق، واعترف فارس مصراتي الإسرائيلي من أصل ليبي أنه يحضر للقاهرة بتعليمات من الموساد تحت ستار السياحة لجمع معلومات والعودة بها إلى إسرائيل، فضلاً عن ترويج المخدرات. والغريب أنه اعترف بلا حرج بأن مهمة ابنته تتمثل في اصطياد الشخصيات العامة والشباب وتمضية سهرات حمراء معهم للحصول على المعلومات. واعترفت فائقة بهذا الأمر بدورها. وعندما حاول رجال المباحث التوصل إلى معارفها، اعتذرت بأنه لا يمكن حصرهم. أما الشاب الذي تصادف وجوده معها لحظة القبض عليها وعلى والدها، فتبين أنه مجرد زبون من بين عشرات الزبائن. ومن ضمن توابل القضية أيضاً ما أشارت إليه الصحف آنذاك من أن الآنسة فائقة مصابة بالإيدز، وأنها كانت مهتمة بالإيقاع بعشرات وربما مئات الشباب والرجال المصريين، لذلك انطلقت الشرطة للإمساك بهؤلاء الذين أصيبوا بالإيدز لعزلهم عن بقية المجتمع.