تناولت في مقالين نشرا على صفحات الجريدة في عدديها الصادرين في 12 و16 يونيو الماضي الرقابة على دستورية القوانين، قلت فيهما إن الدستور عندما عهد إلى المشرع بتعيين الجهة القضائية التي تتولى رقابة دستورية القوانين، قد اختار الرقابة القضائية، دون الرقابة بواسطة هيئة سياسية، وهو النموذج الفرنسي للرقابة على دستورية القوانين بواسطة المجلس الدستوري، إلا أن ذلك لا يعني انتفاء رقابة الهيئات السياسية على دستورية القوانين، قبل إقرارها، حيث تتمثل هذه الرقابة الأخيرة بمجلس الوزراء ومجلس الأمة وصاحب السمو الأمير عند التصديق على القوانين وإصدارها.
الأساس الدستوري لرقابة مجلس الأمة
وأساس ذلك أن الدستور يلزم أعضاءه جميعا بمن في ذلك الوزراء قبل توليهم أعمالهم في المجلس بأن يؤدوا قسما باحترام أحكام الدستور، وهو ما يفرض عليهم التحقق من توافق أحكام القوانين التي يقرونها مع أحكام الدستور، باعتباره "أبو القوانين".وتحرص بعض الدساتير على النص على هذه الرقابة صراحة، ومنها المادة (73) من دستور اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية سنة 1977، والمادة 25 من الدستور البلغاري الصادر سنة 1947 والمادة 25 من دستور الصين الشعبية الصادر في 5 مارس 1978.وهو تحصيل حاصل ، إلا أن نصوص هذه الدساتير، لم تكن لتذكر المجالس التشريعية بهذه الرقابة، بل لحجب السلطة التشريعية عن تقرير رقابة قضائية على دستورية القوانين من ناحية، ولحجب القضاء عن ممارسة أي نوع من أنواع الرقابة التي يبسطها القضاء على دستورية القوانين في غياب نص في الدستور يمنحه هذا الحق، والتي تتمثل بامتناع القاضي عن تطبيق القانون غير الدستوري.مجلس الأمة يراقب «الدستورية» قبل إنشاء محكمتها
وقد كان مجلس الأمة يمارس هذه الرقابة بفاعليه كبيرة قبل إنشاء المحكمة الدستورية، وذلك لحرص أعضاء مجلس الأمة والحكومة معا على إرساء مبادئ الدستور وتفعيل نصوصه، في مستهل الحياة البرلمانية التي اقترن العمل بالدستور بقيامها، فحدد الدستور تاريخ العمل به من تاريخ أول اجتماع لمجلس الأمة، ليصون المجلس والحكومة أحكام الدستور، فيما يصدر من قوانين وفيما يباشر المجلس من أعمال برلمانية، وكان أغلب أعضاء المجلس والحكومة في هذه الفترة، أعضاء في المجلس التأسيسي الذي وضع الدستور، كما كان الراحل الدكتور عثمان خليل هو الخبير الدستوري في المجلسين.وكان هناك زخم وثراء في المناقشات الواسعة التي كانت تجري في جلسات المجلس، حول ما يثيره البعض من شبهات لمخالفة الدستور، في أي اقتراح بقانون أو أي عمل برلماني، يسأل فيها الخبير الدستوري الراحل، في الجلسة ذاتها، وليس وراء جدران مغلقة، وينزل المجلس عند رأيه.الفصل التشريعي السابع
كما كان لمجلس الأمة في هذا الفصل سجل حافل بهذه الرقابة على المراسيم بقوانين التي صدرت خلال فترة تعطيل الحياة النيابية (86-1992) . نورد بعضها فيما يلي:حماية حرية الصحافة
فقد تصدى مجلس الأمة للمراسيم بقوانين التي قيدت حرية الصحافة خلال الفترة سالفة الذكر فلم يقر المجلس المرسومين بقانون رقم 73 لسنة 86 ورقم 134 لسنة 1992 بتعديل بعض أحكام قانون المطبوعات والنشر، لم يقرهما بجلسته المنعقدة بتاريخ 19/ 1/ 1993 لمخالفتهما للدستور الذي كفل حرية الصحافة، وقد جاء في تقرير لجنة شؤون التعليم والثقافة والإرشاد برئاسة د. ناصر عبدالعزيز الصرخوه، ومقرر اللجنة جمال أحمد الكندري، أن المرسوم بقانون الأول تضمن انتهاكا لحرية الصحافة والطباعة والنشر، بإلغائه المادة 32 من قانون المطبوعات والنشر التي تجعل رفض صدور الجريدة لحين صدور حكم من القضاء في شأنها بإذن من رئيس محكمة الاستئناف بناء على طلب وزير الإعلام بما يحرم الجريدة من حماية السلطة القضائية، فوفقا لنص هذا المرسوم بقانون يجوز لمجلس الوزراء تعطيل الجريدة لمدة لا تجاوز سنتين أو إلغاء ترخيصها، كما يجوز لوزير الإعلام وقف الجريدة عن الصدور لمدة لا تزيد على ثلاثة أشهر. كما أضاف المرسوم بقانون رقم 73 لسنة 1986 إلى قانون المطبوعات والنشر مادتين تحظران إصدار أية مطبوعات بغير ترخيص مسبق من وزارة الإعلام، وذلك عدا المطبوعات الدورية والحكومية وذات الصفة التجارية، كما تحظران كذلك نشر أي إعلان أو بيان غير تجاري صادر من هيئة أو جماعة من الأشخاص أو من أية دولة أو هيئة أجنبية بغير موافقة مسبقة من وزارة الإعلام.وقد نبه التقرير كذلك إلى خطورة المواد 35 مكررا، و35 مكررا (أ)، و35 مكررا (ب) التي استحدثها المرسوم بقانون رقم 73 لسنة 1986 والتي تتضمن أحكاما تعتبر مخالفة للدستور بكل المقاييس بما تجيزه لوزير الإعلام من إخضاع المطبوعات الدورية للرقابة المسبقة على النشر.كفالة حق التقاضي
واعتبر مجلس الأمة ما تضمنه المرسوم بقانون رقم 2 لسنة 1989 من حرمان الموظف الذي يعزل بقرار من مجلس الوزراء من حق الالتجاء إلى القضاء مساسا بحق التقاضي الذي كفله الدستور (التقرير الرابع للجنة الشؤون التشريعية والقانونية في دور الانعقاد العادي الأول وأكدت اللجنة هذا الرأي في تقريرها السادس في دور الانعقاد العادي الثاني).استقلال القضاء
كما اعتبر مجلس الأمة مساسا باستقلال القضاء المرسوم بقانون رقم 54 لسنة 1987 الذي أضاف مادة جديدة إلى قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية تعطي وزير الداخلية سلطة إبعاد الأجنبي وأسرته أو توقيفه رغم ما يكون قد صدر في حقه من أحكام جزائية بالإيداع في المصحات أو مؤسسات الرعاية الاجتماعية (التقرير الثاني للجنة الشؤون التشريعية والقانونية في دور الانعقاد العادي الأول).ضمانات التقاضي
كما اعتبر مجلس الأمة إخلالا بضمانات التقاضي عدم التقيد بقواعد الإعلان وتسبيب الأحكام المنصوص عليها قانون المرافعات المدنية والتجارية في المرسوم بقانون رقم 46 لسنة 1989 في شأن الدعاوى قليلة القيمة.حرية المعلومات
ولم يوافق مجلس الأمة كذلك على المرسوم بقانون رقم 6 لسنة 1988 في شأن الوثائق السرية للدولة لمخالفته الدستور الذي أرسى مبدأ شرعية التجريم والعقاب، والذي أرسى النظام الديمقراطي بما يفرضه هذا النظام من وجوب كشف الحقائق أمام الشعب، وهو ما يتعارض مع ما يفرضه هذا المرسوم بقانون من سرية المعلومات (التقرير الحادي عشر للجنة الشؤون التشريعية والقانونية في دور الانعقاد العادي الأول) .مبدأ الفصل بين السلطات
كما رفض مجلس الأمة اقرار المرسوم بقانون رقم 35 لسنة 1990 في شأن محاكمة الوزراء، لمخالفته أحكام الدستور بالنسبة إلى ما أضافه من صلاحيات استخدام الأوامر الأميرية بالمخالفة لنص المادة 55 من الدستور التي تنص على أن يباشر الأمير سلطاته بواسطة وزرائه، أي بمراسيم، ولمخالفة المرسوم بقانون لمبدأ شرعية التجريم والعقاب، وجوره على مبدأ الفصل بين السلطات (التقرير السابع مكرر للجنة الشؤون التشريعية والقانونية في دور الانعقاد العادي الثاني).وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.