يتبدى المشرق العربي سمة كبرى للعجز التاريخي في بناء الدولة-الأمة، وهو عجز بدا مصحوبا بمقت شديد للسياسة كوسيلة لتسيير المجتمعات الأهلية والاستعاضة عنها ببدائل وحشية للحكم، وبدورها جاءت التوتاليتارية بوصفها خلاصة لمستقبلات مغلقة بالأصل.

ومن هنا تتأتى أهمية النظر في أوضاعنا، فالمشرق العربي نسيجه مجتمعات فسيفسائية متنوعة على مستوى النحل والطوائف والأعراق، وفي أوضاع كهذه تلوح طريقتان أساسيتان لإقرار النظام وتسيير أمور البشر في هذه المجتمعات هما السياسة أو الدكتاتورية، أكان ذلك من خلال التوافق أم القوة العارية.

Ad

وبدورها فإن السياسة هي نشاط يتم بوساطته التعرف على وجود الجماعات والمصالح والآراء المتباينة، وتسعى إلى ابتداع طرائق للموازنة أو التراضي أو التوفيق بين هذه المصالح أو على الأقل أغلبها، والنشاط السياسي في سبيل ذلك يسير وفقا لمجموعة من القوانين، مدونة في دستور أو أعراف تسهم في جعل الأفراد يصلون إلى هذه التوافقات بطريقة ينظر إليها الجميع على أنها مشروعة ومتفق عليها.

وعلى العموم، ما يبعث على التملل من السياسة هو حقيقة أن الناس لا يظفرون من خلالها بكل ما يرغبون فيه، فهي عملية مربكة ومحدودة، وللحق فإنها لا تحسم بضربة لازب أية قضية، فالسياسة نشاط لا يخلو من الاضطراب والتقلب، ويقر الناس من خلالها بالضغوط التي تهبط عليهم من وقت لآخر فيقبلون بأقل مما كانوا يطمحون إليه. والطقوس المملة والرتيبة التي ترافق العملية السياسية تجعل من الإحباط رفيقا اعتياديا لها.

في الحدود هذه انطوت السياسة على ما لم تنطو الدكتاتورية عليه، فهي تتضمن حوارات ونقاشات مستمرة، يقترب المرء من خلالها من الأشخاص الآخرين ويبصر الأشياء بعيون جماعات مغايرة، ومن ثم يقيم توازنا بين حاجاته وحاجاتهم، فضلا عن ذلك، فإنها أفضل من البديل، الذي هو حكم طاغية تسلطي يخضع كل امرئ لمشيئته.

وفي النهاية تبقى السياسة أسلوبا لحكم مجتمعات مقسمة بدون عنف لا ضرورة له، والزهد فيها والوقوف في وجهها وفي وجه الحداثة بشكل عام هو العنوان البارز لأوضاع المشرق العربي راهنا، ذاك أن علو نجم الجماعات المناهضة للسياسة والمبتلاة بنظرة عُظامية إلى الذات والعالم- تمثلها بشكل باهر التنظيمات الدينية المسلحة كالقاعدة وداعش وحزب الله والحشد الشعبي– هو ما مهد الطريق نحو العدمية التي تغرق فيها مجتمعات المشرق العربي. وإذا ما اقترن هذا البؤس الإنساني بمحدودية العلاقة بالحداثة والمدنية، غدا من السهل على أية زمرة أن تطأ الأعراف والقوانين التي تضفي الشرعية على حياة الناس.

والحق أن التمسك بممارسات خرافية وماضوية معادة الإنتاج إلى هذا الحد أو ذاك، وبالتالي قطع الطريق أمام تطوير شيء من العقلانية في المجتمع وترشيق الجسم المتضخم للأساطير السياسية، هو مصدر النزعة المستفحلة لدى قطاع واسع من أبناء المشرق العربي في اعتناق دعوات خلاصية إلى تغيير العالم أو، كحد أدنى، قتل الآخر الغريب سواء في عقر داره أو في ربوعنا، بتبريرات ما أنزل الله بها من سلطان!