أعاد حادث الاعتداء الإرهابي على مطار إسطنبول، في الأسبوع الماضي، تذكير العالم بخطر الإرهاب، الذي يستفحل يوماً بعد يوم، ولا يوفر بلداً إلا ويتمكن من الضرب فيه، مهما كانت إجراءات الأمن صارمة، والتدابير الوقائية حاضرة.يفرض الإرهاب تحدياً خطيراً على دول العالم المختلفة، لأنه ببساطة يسلك مساراً ملتوياً، يُفقد خلاله الجيوش النظامية وقوى الأمن المنظمة المزايا التي تتمتع بها، إذ لا يواجهها مواجهة مباشرة، بل يستغل عيوب التنظيم، ويستفيد من أعباء المركزية الملقاة على عاتقها، والتي تحد من حركتها، وتقيد قدرتها على المبادرة والاستجابة السريعة.
وفي هذا الصدد، يؤكد الباحث المرموق فرانسيس فوكوياما أن العالم قد تغير بعد سقوط برجي "مانهاتن"، بعدما رأى أن التحدي الرئيس للعالم بعد هذا السقوط، سيتمثل في مواجهة القوة الصاعدة للتنظيمات الأقل من الدولة، والجماعات الإرهابية.تعتمد الجماعات الإرهابية، سواء كانت ترتكز على دعاوى ذات طابع ديني أو قومي، أو تنطلق من أهداف إجرامية وفوضوية على نمط "الحرب اللامتماثلة".تواجه تركيا، وقبلها فرنسا وبلجيكا وعدد كبير من الدول العربية والأجنبية، خطر الإرهاب المعتمد على خصائص "الحرب اللامتماثلة"، والذي يستفيد من تلك الخصائص، ليوجه ضربات مؤلمة للبلدان التي يستهدفها.تختلف "الحرب اللامتماثلة" عن الحروب التقليدية في عدد من العناصر؛ منها ما يلي:الجبهة: جبهة "الحرب اللامتماثلة" واسعة ومتعددة على عكس الحروب التقليدية التي يتم تعيين الجبهة فيها بإحداثيات دقيقة، وبالتالي فقد تكون تلك الجبهة مطاراً كما حدث في إسطنبول وبروكسل، أو مسرحاً أو ساحة احتفال كما جرى في فرنسا، أو طائرة تطير في الجو كما حدث مع الطائرة الروسية التي انفجرت فوق سيناء في نوفمبر من العام الماضي.التوقيت: الحرب التقليدية محدودة بفترة زمنية، إذ يصعب جداً تمديد زمن الحرب لأن تكلفتها عالية، لكن "الحرب اللامتماثلة" ليس لها توقيت معين؛ إذ يمكن أن تستمر لعقد كامل، فالعراق على سبيل المثال لم يمر عليه شهر واحد من دون عمليات إرهابية مدمرة، منذ عام 2003 حتى وقتنا هذا.الغاية: غاية الحرب التقليدية هي دحر العدو وكسر إرادته وفرض الشروط عليه، لكن غاية الحرب "اللامتماثلة" مختلفة، ويمكن أن تكون "إنهاك العدو" فقط، ويمكن أن تتسع لتصبح "إنهاء العدو".الوسائل: وسائل الحرب التقليدية معروفة، ومعظمها من معدات الحرب وأسلحتها، أما "الحرب اللامتماثلة" فيمكن أن تكون وسائلها البنية الأساسية، أو مواقع التواصل الاجتماعي، أو وسائل المواصلات، أو العدو نفسه. لا يمكن للدولة الوطنية مواجهة مخاطر "الحرب اللامتماثلة" إلا بتحليل عناصرها وأدواتها؛ وتلك الأدوات باتت من الاتساع والتكامل لدرجة أنها تشمل الحروب التكنولوجية، والبيولوجية، والعمليات الإرهابية، وحرب العصابات، وأنشطة التواصل، وبث الدعايات، وحرف الرأي العام.وقد يرافق صعود مفهوم "الحرب اللامتماثلة" بروز تهديدات "التنظيمات الأقل من الدولة"؛ وهي تجمعات أو عصابات مسلحة، تستهدف تحقيق مصالح سياسية، مرتكزة إلى دعاوى أيديولوجية أو عنصرية، ومستندة إلى مطالب ذات طبيعة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو معنوية.لقد ظلت الدولة لقرون هي الفاعل الرئيس (وربما الوحيد) في الشؤون العالمية، حتى ظهر فاعلون مؤثرون آخرون؛ مثل المنظمات الدولية، والمجتمع المدني، و"اللوبيات"، والشركات متعددة الجنسيات، والجماعات المسلحة، حتى الأفراد.فالفاعل في المجال الدولي Actor، ظل مقتصراً على الدولة، حتى ظهر ما يُعرف بـ "القوى عبر الوطنية" Forces Transnationals، أو الفاعلون الجدد من غير الدولة Non State Actors، وهو ما تجسده حالة "القاعدة"، أو "داعش"، أو "حزب الله"، أو "حزب العمال الكردستاني"، أو الشركات متعددة الجنسيات، حتى بعض الأفراد من الفاعلين الذين يمتلكون قدرات للتأثير في مجريات السياسات العالمية.ولأن هذه القوى الفاعلة الجديدة تفتقد قدرات الدولة بمفهومها التقليدي، كما تفتقر إلى الاعتراف والاعتبار الدوليين، ولا تمتلك القدر الكافي من الشرعية، فإنها تلجأ إلى استخدام أساليب "الحرب اللامتماثلة" لتحقيق أهدافها. وبالنسبة إلى الفاعلين من غير الدولة من الجماعات الإرهابية والتنظيمات غير الشرعية، فإن "الحرب اللامتماثلة" ستكون وسيلة ناجعة لتحقيق أهدافهم، بسبب طبيعة تلك الحرب، وسهولة توفير وسائلها، والصعوبة الكبيرة التي تجدها الدولة الوطنية عند مواجهتها.تتزايد قدرات "التنظيمات الأقل من الدولة" بسبب استنادها إلى "مظلوميات" تتعلق بـ"الاغتراب والتهميش"، وتردي الخدمات، وضعف التماسك والانسجام الوطنيين في بعض الدول، كما تستفيد من استخدامها مفاهيم أيديولوجية، بعضها ذو بعد روحي، إضافة إلى سهولة استخدام وسائط التكنولوجيا، والدعم الذي تتلقاه من دول مؤثرة في بعض الأحيان.وكما يرى "سيري لونغ" مدير دراسات الشرق الأوسط، في جامعة بايلور الأميركية، فإن "نزع الشرعية" عن دعاوى تلك التنظيمات يعد أهم وسائل مقاومتها.لكن "نزع الشرعية عن تلك التنظيمات عبر المواجهات الدعائية لن يكون كافياً لإلحاق الهزيمة بها؛ إذ يتعين، في الوقت ذاته، بذل جهود كبيرة لتوضيح تهافت الادعاءات ذات الطابع الديني أو القومي التي تستند إليها، وإثبات فساد المرتكزات الفكرية التي تتبناها، وإقناع الجمهور بتهاويها وخطلها.إن استخدام وسائل الردع المسلحة النظامية يحقق نجاحاً في احتواء مخاطر تلك التنظيمات أحياناً، لكن الردع التقليدي وحده يبدو غير كاف لحسم تلك المعارك الجديدة، وهو أمر يفرض على الدولة الوطنية تغيير أساليبها في مواجهة تلك القوى، إذا أرادت أن تحقق النصر.من أهم الوسائل الجديدة التي يجب أن تُستخدم في مواجهة خطر الإرهاب الذي يستفحل على أيدي المنظمات الأقل من الدولة، أن يتم تجريد تلك المنظمات من ميزة "اللاتماثل".يعني ذلك أن تطور الدولة الوطنية وحدات مكافحة إرهاب نوعية، تعمل بطريقة غير مركزية، وتعتمد أساليب أكثر جرأة، بدلاً من استخدام آليات الحشد والتعبئة النظامية، ورص صفوف العسكر، وتسيير الأرتال والمدرعات، التي يمكن استهدافها ببساطة عبر القنص أو تفجير العبوات الناسفة على جوانب الطرق.وستكون المعلومات رأس الحربة في تلك المعركة، لا كثافة النيران أو أعداد الجنود.
* كاتب مصري