طلب حمدي مساعدة شقيقه الضابط رؤوف لحل مشكلة انتهاء صلاحية جواز سفره، فابلغه أن وزير الداخلية يستطيع حلّها في دقائق قليلة، فهو يحترم الفنانين ويقدّر طبيعة عملهم، وبالتأكيد لن يتردد في مساعدته ما دام الأمر في يده، ولا مشكلة أمنية لديه، فشجعه على طلب موعد للقاء وزير الداخلية آنذاك اللواء شعراوي جمعة. فعلاً، حُدد الموعد في اليوم التالي، بعدما أخبر عماد حمدي مدير مكتب الوزير أن اللقاء لن يستغرق أكثر من دقائق.

وصل عماد إلى مكتب الوزير في موعده، وطلب موافقته على السفر إلى لبنان، إذ كانت تأشيرة وزير الداخلية على جوازات السفر لازمة في تلك الفترة، وتستغرق بعض الوقت لاستخراجها ضمن إجراءات روتينية، وشرح فتى الشاشة ظروفه التي تجعل فرصة السفر الأفضل بالنسبة إليه، فكلّف الوزير مدير مكتبه بإنهاء إجراءات سفر الفنان القدير. هكذا وجد عماد حمدي نفسه يعبر أقسام جوازات مطار القاهرة على متن الطائرة المصرية المتجهة إلى بيروت صباح 25 مايو 1967.

Ad

لم يكن حمدي يهدف من سفره إلى بيروت تقديم فيلم واحد، بل أمل في أن يجد في السينما اللبنانية فرصة الظهور في أعمال عدة، خصوصاً مع تلقيه اتصالات من صانعي السينما يطلبون مشاركته في أكثر من عمل، فأدرك أن إقامته في بيروت قد تطول، لذلك أصرّ على مرافقة زوجته ونجله له، وطلب من صديقه اللبناني أن يعثر له على شقة مناسبة يستأجرها خلال وجوده في لبنان، ووقع معه تعاقد الفيلم الذي لم يقرأه، وحصل على عربون قدره 5 آلاف ليرة. لكن ما لبث صديقه ان اختفى، وعرف أنه اضطر إلى السفر خارج لبنان لظروف عمل خاصة به.

بحث عن فرصة

لم يكن أمام فتى الشاشة سوى انتظار عودة صديقه الذي سافر في ظروف غامضة قبل الاتفاق على أي عمل جديد احتراماً لاتفاقهما وتعاقدهما، خصوصاً أنه لم يعرف موعد التصوير أو مكانه، فحاول الاتصال به على مدى أيام حتى تمكن من الوصول إليه، فأخبره بأنه لن يعود قريباً، عندها بدأ عماد البحث عن مشاريع أفلام أخرى يقدمها خلال إقامته في بيروت.

في أحد الأيام، فوجئ حمدي باتصال من المنتج اللبناني طنوس فرنجيه الذي أخبره بأنه يستعد لتصوير فيلم جديد يموله أحد الأمراء ورصد موازنة ضخمة لخروجه بشكل جيد، وأنه استغل وجوده في لبنان لترشيحه للعمل فيه مع زوجته نادية الجندي، ويشارك فيه ممثلون مصريون مشهورين سيصلون تباعاً إلى بيروت قبل انطلاق التصوير، من بينهم سميرة أحمد.

تحمس عماد للفيلم وأبدى موافقته، كذلك زوجته نادية الجندي، وبدأ قراءة السيناريو ومعرفة تفاصيل دوره الذي لم يكن قد اكتملت عملية كتابته بعد، فحصل عماد وزوجته على عربون التعاقد، واتفقوا على بداية التصوير في 8 يونيو 1967، على أن يكون التصوير في المشاهد التي أُنجزت كتابتها، خصوصاً أن الأحداث ستصور في مناطق متقاربة في بيروت. لكن قبل يومين من التصوير، استيقظ عماد على صوت طرق عنيف على الباب من بائع الصحف الذي اعتاد إيصال الصحف والمجلات الفنية له فاهتمام عماد بالقراءة لم يتوقف حتى في الغربة.

النكسة

في ذلك اليوم، لم يحمل البائع الجرائد التي لم تصل في موعدها بسبب اندلاع حرب يونيو 1967، فتوجه عماد حمدي وزوجته إلى مكان إقامة زملائهم الفنانين في بيروت، لمتابعة ما يحدث في مصر، والتوصل إلى حل للعودة لمساندة بلدهم وسط أجواء الحرب.

سيطر هدوء حذر على بيروت المليئة بالصخب عادة، لترقب ما ستسفر عنه الحرب، بينما كان فتى الشاشة وزوجته يجتمعان مع الفنانين المصريين من بينهم فؤاد المهندس ومريم فخر الدين والمخرج حسن الإمام، ويستمعون إلى الإذاعات الأجنبية والعربية نهاراً لمعرفة آخر الأخبار، قبل أن يأتي الخبر اليقين بتعرض الجيوش العربية، على رأسها الجيش المصري للنكسة، واحتلال سيناء والجولان وبقية الأراضي الفلسطينية.

ساءت الأوضاع الاقتصادية بسبب الإجراءات الاستثنائية التي اتخذتها الحكومة اللبنانية، في ما يتعلق بصرف الأموال، ووضع حد أقصى للحسابات، وشعر عماد حمدي بأنه أصبح ثرياً بحكم تقاضيه عربون الفيلمين في وقت كانت البنوك أغلقت أبوابها، وواجهت أزمة مالية. حتى الأثرياء ما عادوا يستطيعون الحصول على أموالهم، إلا بالقدر الذي تسمح به الحكومة اللبنانية.

مرّ الوقت طويلاً على عماد حمدي وهو مقيّد الحركة، وغير قادر على الخروج من المكان الذي يجمعه مع الفنانين، لا سيما مع صعوبة رحلات الطيران، فظل يستمع إلى الأخبار لمعرفة ما يحدث في مصر، ويرى تبعات النكسة التي ألقت بثقلها على الجميع، وسط شعور الفنانين المصريين الموجودين في بيروت، بالعجز عن مساعدة وطنهم في محنته، في ظل الأخبار السلبية التي كانت تصل من القاهرة، وتشير إلى سوء الأوضاع.

أعتاب الشيخوخة

بعد استقرار الأوضاع نسبياً، عاد عماد حمدي إلى القاهرة، وإن كانت نجوميته تأثرت بسبب تقدمه في العمر ودخوله مرحلة الشيخوخة، بالتوازي مع الكساد السينمائي الذي عاشت فيه مصر بعد النكسة، مع ذلك أدى أدواراً مميزة، وإن كان الفارق الزمني بينها طويلاً نسبياً. قدم مع حسين كمال في {ثرثرة فوق النيل} عن رواية بالاسم نفسه لنجيب محفوظ، شخصية أنيس زكي الموظف الذي يقف على أعتاب الشيخوخة، ويعيش وهم العبقرية المضطهدة، ورغم عزلته فإن أحداث النكسة تقتحم حياته من خلال مشاهد عدة برع في تقديمها.

كان الدور بمثابة تحدٍ لشخصية عماد حمدي الحقيقية، فهو رجل لا يعرف المخدرات بينما يظهر في أحداث الفيلم مدخناً شرها للحشيش، ما دفعه إلى قبول التحدي، فقصد مع أصدقاء له جلسات حشيش بالغرز، بالإضافة إلى البارات لتحديد الفارق بين السكير ومن يتعاطى الحشيش في طريقة الكلام والسلوك، فامتلك مفاتيح شخصية {الحشاش}، سواء في الحديث ببطء أو بالإيماءات والإشارات الغامضة.

عادت الأموال إلى جيب عماد حمدي بعد عمله في أفلام تتوافق مع مرحلته العمرية الجديدة، وكعادته لم يرد ادخارها لتأمين مستقبله، بل قرر إنفاقها على السينما، من خلال العودة إلى الإنتاج الذي توقف عنه بسبب مشكلته مع الضرائب قبل سنوات، فبدأ التفكير في إنتاج فيلم لزوجته نادية الجندي التي وجد فيها موهبة لم تكتشف بعد، لعدم حصولها على أدوار البطولة في أي من الأعمال التي شاركت فيها.

لم يجد حمدي ما يمنعه من تكرار تجربته في الإنتاج، خصوصاً أن الأفلام التي أنتجها لزوجته السابقة شادية حققت عائدات ضخمة، لكن لم يأخذ في حسابه أن شادية كانت نجمة متربعة على عرش الإيرادات أكثر من ربع قرن، فيما نادية الجندي ممثلة متواضعة الإمكانات ولم يسبق تقديمها في دور البطولة. على كل حال، بدأ عماد حمدي البحث عن سيناريو مناسب لتؤدي زوجته بطولته، واستقر مع المخرج حسن الإمام على فكرة فيلم استعراضي، لكن سرعان ما توقف العمل فيه نظراً إلى الموازنة الضخمة التي يتطلبها والمجاميع التي تشارك في الاستعراضات، بينما اعتذر محمود عبد العزيز ونور الشريف عن دور البطولة بشكل مهذب، من خلال زيادة أجرهما بصورة لافتة، وفهم حمدي أنهما لم يتحمسا لخوض التجربة، فأسند دور البطولة إلى سعيد صالح، الذي وافق من دون تردد على أن يكون بطلاً في فيلم بطلته الحقيقية نادية الجندي، التي تقدم نفسها للمرة الأولى للجمهور كنجمة شباك.

أصرّ عماد حمدي على خوض التجربة رغم خشيته الضرائب والمشاكل التي واجهته سابقاً، لذا قرر أن يحمل الفيلم اسم زوجته نادية الجندي، فحياتهما الزوجية المستقرة ونجلهما هشام، جعلاه يضع تحويشة عمره في فيلم لزوجته وباسمها، فحقق {بمبة كشر} نجاحاً وبقي في الصالات فترة طويلة، وغطى تكلفة إنتاجه المرتفعة، وقدم نادية الجندي كبطلة سينمائية للمرة الأولى. لكن نجاح الفيلم كان بداية فشل حياتهما الزوجية، ومرحلة اعتبرها في مذكراته إحدى أصعب مراحل حياته، بل يمكن وصفها بالأصعب على الإطلاق.

بداية النهاية

حول هذه الفترة الصعبة من حياته، يقول عماد حمدي: «لم أحصل على أموال من إيرادات الفيلم، لم أحزن بسبب خسارة المال، فالمفروض أن يضحي الزوج لأجل زوجته، أن يفعل ما يربحها وما يساعدها في تحقيق النجاح الذي تريده. لم أكن نادماً على ما أنفقته ما دام الفيلم قد نجح، وحقق الهدف، وما دمت قدمته خدمة لزوجتي التي اخترتها أثناء عملي».

تابع: «تركت تجربة إنتاج الفيلم في نفسي آثاراً لا يمكن إزالتها، وثمة تفاصيل أخرى لا أحب أن أخوض فيها. لكن تلك الظروف كافة، بالإضافة إلى الفارق العمري الكبير، جعلت خلافاتنا تنشأ، ورغم أنني عشت معها أطول فترة زواج 13 عاماً، فإن العمر الافتراضي لحياتنا الزوجية انتهى قبل انفصالنا بوقت طويل، وبقي الأمر ممكناً حتى جاءت اللحظة التي أصبحنا فيها غير قادرين على التحمل أو الانتظار، فأخذت حقيبة فيها بعض ملابسي وتركت منزل الزوجية متجهاً إلى منزل شقيقي».

بقي عماد حمدي في منزل شقيقه ستة أيام لم يخرج منه، ولم يتواصل مع أحد حتى مع نادية الجندي التي كانت لا تزال زوجته. خرج في اليوم السادس متجهاً إلى مكتب المأذون في الزمالك، ليكتب نهاية أطول علاقة زواج في حياة فتى الشاشة، لكن هذه المرة خسر أمواله في إنتاج الفيلم وترك شقة الزمالك التي نقل ملكيتها إلى زوجته خلال زواجهما ولم يعد يملك شيئاً، حتى مقر سكنه الفاخر.

يحكي عماد شعوره في تلك اللحظات، قائلا: «راحة البال لا تساوي كل أموال الدنيا. كنت أريد فقط راحة البال، الحياة الزوجية الفاشلة قد تدفع بعض الأزواج إلى الجنون أو إلى الانتحار لكني والحمد لله خرجت من تلك التجربة سليم العقل، ولم أفكر أبداً في إلقاء نفسي من أقرب نافذة. خرجت خالي الوفاض وكأني أبدأ حياتي من جديد لكن لا يهم، الطعام والشراب ليسا مشكلة المهمة راحة البال، والله كريم قادر على كل شيء، فليذهب كل شيء ويبقى شعوري بالرضا عن نفسي».

يقارن فتى الشاشة في مذكراته بين تعامل الصحافة مع خبر انفصاله عن شادية الذي ملأ الدنيا ضجيجاً واستمر لسنوات بعد انفصالهما حتى زواج شادية، وبين خبر انفصاله عن نادية الجندي، وكأنه حدث كان متوقعاً بالنسبة إلى الصحافة الفنية في تلك الفترة، كان فارق السن بينه وبين زوجته الثالثة مبرراً كافياً للطلاق، لكن السبب الأهم هو الفارق الشاسع في ما يتعلّق بموهبة وجماهيرية شادية التي لا تملك منها نادية الجندي شيئاً.

قرر عماد أن يخرج من عزلته، فهو يشعر براحة نفسية ولم يندم على فترة زواجه من نادية الجندي، فعاود العمل في دور صغير في «المذنبون» للمخرج سعيد مرزوق، بالإضافة إلى أدوار درامية في التلفزيون الذي بدأ تقديم مجموعة من الأعمال الجيدة ابتداء من النصف الثاني من السبعينيات، فكانت تجربته في مسلسلي «سليمان الحلبي»، و«عيلة الدوغري» مع المخرج يوسف مرزوق من أفضل الأعمال الدرامية التي خاضها.

فتى الشاشة يتنازل عن بذلاته
لم يكن عماد حمدي من الفنانين الذين يحتفظون بأموالهم في البنوك، بل كان مسرفاً في إنفاق الأموال، لذلك تعرض لمشكلة مالية مع انحسار الأدوار عنه في فترة الكساد السينمائي، في النصف الثاني من الستينيات، لدرجة أنه لم يستطع دفع غرامة قضت بها محكمة قاهرية لصالح أحد المواطنين ضده بعدما صدمه بسيارته في أحد شوارع الزمالك.

حاول الشاب تهديد عماد حمدي بالحجز على ممتلكاته بعدما أكّد الأخير أنه لا يملك أموالاً لتقديمها، ثم عرض عليه الحصول على أي تحف يريدها من منزله، لكن الشاب رفض، وهدد بالحجز على شقته وممتلكاته، لتحصيل مبلغ الغرامة، إلا إذا لم يتنازل فتى الشاشة له عن البدل التي يملكها وظهر فيها في أعماله.

فشلت الحلول الودية بين حمدي والشاب بواسطة محاميه، ما أجبر الفنان الكبير على منحه البدل التي كان يحتفظ بها، والحزن يعتصر قلبه، بسبب الظروف التي أوقعته فريسة شاب لا يرحم تقدمه في العمر فاستجاب لطلبه وتم إنهاء الأمر ودياً، وبدأ عماد حمدي البحث عن فرصة عمل يستطيع أن ينفق منها في ما تبقى له من أيام.

التفاصيل في الحلقة المقبلة