حملت الأيام بعض الحقائق لتبدّد غموض مصير مهرّب الهيروين الإسرائيلي يوسف طحان، والذي يقبع في السجون المصرية منذ عام 1985. كشفت الأخبار التي بدأت تظهر على سطح الأحداث بجلاء أن المحاولات الإسرائيلية للإفراج عنه في صفقة تبادلية مع الفدائي المصري سعد الرطيل والمعتقل في السجون الإسرائيلية، تم إجهاضها أمام إصرار السلطات المصرية على الإفراج عن الرطيل من دون مقابل. فطحان ظلّ في سجنه في مصر، لكن أيامه في السجون المصرية حملت مستجدات كثيرة.

نشرت مجلة «يديعوت أحرنوت» حواراً لطحان في السابع من يونيو 1991، قالت فيه إن مراسلتها في القاهرة سمادر بيري أجرته مع مهرب الهيروين الإسرائيلي داخل سجن الاستئناف الملاصق لمديرية أمن القاهرة، في ميدان باب الخلق بوسط القاهرة. كان غرض الحوار الصحافي التأكيد أن طحان حي يرزق، وأن حكم الإعدام النهائي لم ينفذ بعد. كذلك نفى الحوار بكل وضوح فكرة مبادلة السجين بسعد الرطيل للمرة الأولى. ولم تكلف «يديعوت أحرنوت» نفسها مشقة البحث عن أي تفسير لبقاء طحان حياً، رغم مرور ما يقرب من أربع سنوات على تصديق محكمة النقض، وتأييدها الحكم بإعدامه.

Ad

لكن قبل أن نستعرض ما دار في حوار «يديعوت أحرنوت» مع طحان، يلفت النظر في العدد نفسه من المجلة ذاتها، حوار آخر منشور أجرته سمادر مع مجرم إسرائيلي آخر، يدعى ياريف بن حورات، محكوم عليه بالسجن سبع سنوات في مصر بتهمة الاتجار في المخدرات. تقول المجلة الإسرائيلية: «احتفل الشاب الإسرائيلي ياريف بن حورات، بعيد ميلاده الخامس والعشرين في سجن طرة بالقاهرة، وقد سمحت السلطات المصرية لأخته وصديقتها بإدخال جميع أنواع الأطعمة والكتب والصحف العبرية والإنكليزية إلى ياريف الذي تشعر أسرته حالياً، بقلق بالغ على مصيره داخل السجن. ومعروف أن السلطات المصرية، كانت ألقت القبض على ياريف، داخل سيناء، منذ عامين وأربعة أشهر وعثرت معه على بضعة غرامات من الحشيش والأفيون، يلفها حول جسده، وأصدرت المحكمة المختصة، حكماً بسجنه سبع سنوات».

وقالت سمادر إنها عندما أرادت إجراء حوار معه توجهت مع القنصل الإسرائيلي في القاهرة، درور جباي، إلى سجن طرة، وأجرت مع ياريف هذه المقابلة الصحافية تحت إشراف ورقابة أحد الضباط، وفيما يلي نصه:

* لماذا تم ترحيلك من سجن أبو زعبل إلى سجن طرة؟

- أعتقد أن السبب يتمثّل في أنهم قد نقلوا إلى سجن أبو زعبل مجند مصري، يدعى أيمن حسن، والذي اغتال منذ أشهر عدة بعض الإسرائيليين بالقرب من إيلات، ومع دخول هذا الجندي إلى زنزانته، فإن بعض السجناء رحبوا به ترحيباً بالغاً، وعامله ضباط السجن بشكل جيد للغاية، ولذلك تم ترحيلي إلى سجن طرة، الذي يعد أسوأ بكثير من سجن أبو زعبل، وأتمنى أن يتم نقلي إلى سجن الأجانب الواقع بالقرب من الإسكندرية.

* ماذا حدث في السجن أيضاً؟

- لاحظت أن كل السجناء يعارضون السياسة الخارجية للحكومة المصرية، وفي ما يتعلق بموقف الضباط والجنود داخل السجن فقد كانوا يؤكدون دائماً أنهم يتمنون إبادة إسرائيل.

* وماذا ينقصك هنا؟

- كل شيء.

* هل لديك أية أخبار عن يوسف طحان؟

- سمعت أن أحد السجناء المصريين قد طعنه بالسكين في صدره، وأن إصابته بسيطة.

***

السجن مذلة

هكذا ظهرت أول معلومة عن طحان في السجن، فلأول مرة نعرف مصيره في السجون المصرية وأنه حي يرزق. لكن هذه المعلومة التي قيل خلالها إنه تعرض لمحاولة اغتيال، تظل متداولة على مسؤولية المجلة الإسرائيلية. أما حوار طحان نفسه مع "يديعوت أحرنوت”، فحمل مفاجآت أخرى، قال طحان نصاً: "لم أعد أحتمل مذلة هذه الحياة، لقد سئمت الدنيا، وأرغب في الموت”. وقالت المجلة إن السلطات المصرية، كانت أصدرت أمراً باعتقال الطحان في الثامن والعشرين من أغسطس عام 1985، أي منذ خمس سنوات وعشرة أشهر، بعد أن وجهت إليه تهمة حيازة كيلوغرام وربع من الهيروين إلى مصر، فتم تقديمه إلى المحاكمة، وحكم عليه بالإعدام شنقاً، وبعد صدور الحكم، نقل إلى سجن طرة حيث أمضى فترة قصيرة، فيما قضى في سجن باب الخلق أربع سنوات ونصف السنة تقريباً.

وتابعت المجلة: "من المعروف أن يوسف طحان أول إسرائيلي يُعتقل في مصر، منذ أن تم التوقيع على اتفاقية السلام المصرية - الإسرائيلية، ولذلك فهو شخصية بارزة في السجن، وأمام بوابة هذا السجن، فإن عائلات المساجين تجلس على أحد المقاهي، وفي الوقت الذي تحمل فيه النساء أطفالهن الرضع، فإن الأطفال الكبار يلعبون في الساحة الترابية المحيطة بالمقهى، وحينما يحين موعد الزيارة، فإن كل النساء يقفن في طابور طويل، ويفتش الجنود جميع أمتعتهن، ويفحص الأطعمة التي يتم إدخالها إلى ذويهم”.

وفي ما يتعلق بيوسف طحان، فإن القنصل الإسرائيلي في القاهرة، درور جباي، فكان يزوره دائماً للتخفيف عنه، من دون أن يقف مع بقية المصريين في هذا الطابور الممل. يُشار إلى أن السفارة الإسرائيلية في القاهرة، هي التي كانت تتولى مهمة توريد أنواع الأطعمة كافة إلى طحان في سجنه. ويقول جباي: "منذ أن توليت منصب القنصل الإسرائيلي في القاهرة منذ ثلاث سنوات، منذ ذلك التاريخ، وأنا أزور الإسرائيليين المقبوض عليهم في قضايا تزوير الدولارات وتهريب المخدرات في مدن طابا ونويبع، والطور وشرم الشيخ والقاهرة والإسكندرية وبورسعيد، ومن خلال ذلك أتيحت لي فرصة التعرف إلى خمسة سجون مصرية، وإن كانت حالة يوسف طحان بالذات الذي يواجه حكم الإعدام، تسوء يوماً بعد يوم”.

وقبل نحو عام، زارت الزوجة فيوليت زوجها طحان لأول مرة بعد خمس سنوات قضاها في السجن، حيث اطلعته على صور الأولاد، وحكت له عن المعاناة اليومية التي تعيشها مع أولاده الأربعة، فرجاها طحان أن تنساه، وألا تأتي إليه ثانية. منذ ذلك الحين، تعكر مزاجه، وساءت حالته، ولم يعد يبعث بأية خطابات تقريباً من سجن باب الخلق إلى أسرته في إسرائيل، رغم محاولات كان يقوم بها درور جباي القنصل الإسرائيلي في القاهرة للتخفيف عنه، ورغم أن فيوليت زوجة يوسف طحان أرسلت في الثالث من يونيو 1991 برقية عاجلة إلى الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك تناشده فيها الإفراج عن زوجها، رحمة بها وبأبنائها.

ويقول القنصل الإسرائيلي درور جباي: "عندما التقيت بالطحان في آخر مرة كان في أسوأ حالاته النفسية، وطلب مني أن أكف عن زيارته، وعن إرسال الخطابات إليه، وقال إنه فقد رغبته في الحياة، وأنه يلقى معاملة سيئة من المسؤولين عن السجن في القاهرة”.

حديث طحان

هذه هي الأجواء التي أجرت فيه "يديعوت أحرنوت” حوارها مع طحان، حاولت بأقصى جهدها أن تستدر عطف القارئ والإيحاء بأنه مظلوم يعاني في السجون المصرية، وهي أجواء قدمت به المجلة الإسرائيلية حوارها مع طحان، الذي اتهم المسؤولين عن السجن في القاهرة، بأنهم دفعوا أحد المسجونين لطعنه بسكين في صدره، وذراعه اليمنى محاولاً قتله، وبعد هذا الحادث تم حرمانه أيضاً من النزهة اليومية، التي يتم السماح بها لجميع المسجونين.

في المقابل، قدمت السلطات المصرية روايتها نافية الطابع الانتقامي لها، مقدمة الحادث في سياق آخر، فوفقاً لسجلات الشرطة المصرية فإن يوسف طحان عاد إلى تجارة المخدرات داخل السجن، وبدأت أعماله تزدهر خلف الأسوار، ونتيجة لزيادة الطلب على المخدرات التي يبيعها، تفتق ذهنه على فكرة جهنمية، إذ أرسل من يشتري له أقراص "نوفا سي” من صيدلية خارج أسوار السجن، ثم سحقها وراح يبيعها للمساجين على أنها بودرة هيروين. وعندما اكتشف أحد المساجين المصريين اللعبة استل سكيناً، كان يحتفظ به بين ملابسه، وانهال عليه طعناً لتأديبه على الغش في المخدرات، وبعد الحادث قررت سلطات السجن تشديد الرقابة على طحان.

لكن الأهم من كل ما سبق، هو اعتراف "يديعوت أحرنوت” بأن إسرائيل بذلت مساعي كثيرة للإفراج عن يوسف "لكنها فشلت جميعاً”، والطريف أن المجلة بررت فشل هذه المساعي الكثيرة "بعدم وجود اتفاقية لتبادل السجناء بين مصر وإسرائيل” من دون أن تبرّر لنا أصلاً عدم تنفيذ حكم الإعدام في يوسف طحان، رغم مرور قرابة الخمس سنوات على تأييد وتصديق محكمة النقض للحكم بإعدامه.

وقالت المجلة الإسرائيلية إن كبار رجال الكيان الإسرائيلي في مطلع التسعينيات أمثال عيزرا وايزمان، وشمعون بيريز، ووزير الداخلية إريه درعي، ووزير الطاقة موشي شاحال، والحاخام الرئيس بإسرائيل، يبذلون أقصى ما في وسعهم لأجل الإفراج عن طحان، إلا أن السلطات المصرية أبلغتهم جميعاً بأنها لا تعتزم الإفراج أو التخفيف من حدة العقوبة التي صدرت ضد الطحان، والهادفة إلى ردع كل من يفكر في ترويج أو تهريب المخدرات إلى مصر.

عميل

كشفت "يديعوت إحرنوت” من دون أن تقصد عن أهمية طحان لكبار رجال الكيان الصهيوني، لذا تدافعوا للتوسط لدى السلطات المصرية بحثاً عن الإفراج عنه، ما أثار الانتباه إلى أن يوسف طحان ليس مجرد تاجر مخدرات، بل هو أكثر من ذلك بكثير، فلو أنه تاجر مخدرات لكان من الممكن أن تفرج القاهرة عنه بسهولة مقابل أي مصري موجود في السجون الإسرائيلية، أو على الأقل لكان تم تنفيذ حكم الإعدام فيه.

بعض الحقيقة كشفها، إيسار هرئيل، والذي عمل سنوات عدة رئيساً للمخابرات الإسرائيلية، واعترف علناً على صفحات جريدة "عل همشار” الصادرة في 21 أكتوبر 1990، بأن "ثمة عمليات سرية، محظور التحدث فيها من الناحية السياسية مثل التساؤل عن إمكان السماح لأجهزة المخابرات الإسرائيلية بتزييف عملة العدو وتخريب اقتصاده، والتساؤل عن إمكان استخدام المخدرات لأجل زعزعة مجتمع العدو”. فهل لعب طحان دوراً في تخريب العقول المصرية؟

مجلة "يديعوت أحرنوت” في حديثها عن يوسف طحان تقول إن السلطات المصرية أبلغت كبار قادة إسرائيل، بأنها "لا تعتزم التخفيف من حدة العقوبة التي صدرت ضد الطحان”، بدعوى أن المسؤولين في القاهرة يهدفون من وراء العقوبة إلى ردع كل من يفكر في تهريب المخدرات إلى مصر. لكن المجلة الإسرائيلية تعجبت من المنطق المصري، خصوصاً أن "الردع” لم يتحقق بسبب عدم تنفيذ حكم الإعدام في طحان.

وتابعت "يديعوت أحرنوت”: "في واقع الأمر فإن أحزاب المعارضة المصرية لم تعد تهتم الآن، بقضية الحكم الصادر ضد يوسف طحان، ولا بحقيقته، وإن كانت صحف المعارضة، قد أبدت حتى العام الماضي، اهتماماً كبيراً بهذه القضية، حتى أن أحد أعداد جريدة الوفد صدر بعنوان "وايزمان يطلب من مبارك الصفح عن طحان”، وحينما نشرت الصحف الإسرائيلية في عام 1987 أنباء عن إمكان إفراج السلطات في القاهرة عن يوسف طحان، صدرت صحف المعارضة المصرية، وقد نسجت قصصاً عدة من وحي خيالها عن نجاح طحان في الهروب من السجن، ورغم أن المصريين يعملون على تحطيم نفسية يوسف طحان بإدخاله كثيراً إلى غرفة الإعدام، فإن إرادته ما زالت قوية، وما زال واثقاً من أنه لن ينفذ فيه حكم الإعدام”.

رغم أن طحان لم يغادر السجون المصرية قط، فإن عدم تنفيذ حكم الإعدام فيه ظل لغزاً يستعصى على الفهم.

يتبع

«الثعبان» أسلم قبل وفاته في السجون المصرية
لم تغلق قضية يوسف طحان بسهولة، فالرجل عاش في السجون المصرية سنوات طوالاً، أضافت فصولاً عدة إلى روايته المتشابكة. خلال السنوات التي قضاها في سجن الاستئناف في وسط القاهرة، لم يتوقف عن ممارسة نشاطه في تهريب وترويج المخدرات والممنوعات حتى بين زملائه من نزلاء السجن، حيث تم ضبطه متلبساً بتجارة البانغو، ما أدى إلى تغريمه مبلغ مئة ألف جنيه مصري وزيادة مدة عقوبته.

الغريب أن عودة طحان لتجارة المخدرات داخل السجن، لم تمنعه من إعلان إسلامه وتخليه عن ديانته اليهودية في عام 2002، بحسب انفراد صحيفة "الشرق الأوسط”، آنذاك، بعدما اعتاد المشاركة في الدروس الدينية التي يقدمها علماء الأزهر في السجن، ليبدأ بعدها حياة أكثر هدوءاً متخلصاً من ماضيه بكل ما يحمله من أزمات وتلاعبات وأسرار، وأندمج في الوسط الإسلامي سريعاً. حتى أنه تولى إمامة المصلين داخل سجن الاستئناف، ورفع الآذان لدى كل صلاة، فضلاً عن أنه بدأ حفظ أجزاء كاملة من القرآن الكريم، كذلك رفض الأطعمة اليهودية التي قدمتها زوجته له، وطالب بأطعمة وفقاً للشريعة الإسلامية.

في مطلع يناير 2004، وضعت كلمة النهاية في ملفه، إذ أعلنت السلطات المصرية نبأ وفاة يوسف طحان، أقدم سجين إسرائيلي في مصر، بعد نقله إلى مستشفى المنيل الجامعي التابع لكلية طب قصر العيني بعد إصابته بغيبوبة سكر، وارتفاع في ضغط الدم، فضلاً عن ارتفاع الأسيتون بالبول وصعوبة في التنفس، ووضع على أجهزة التنفس الصناعي، وأجريت له صدمات كهربائية فجائية للقلب، إلا أنه فارق الحياة، لتنتهي حياته عند هذا الحد بعد أن قضى في السجون المصرية نحو 19 عاماً.