تؤلّف هذه الشهادات الستّ سجلاً موثقاً لمآثر تركها كمال الصليبي المؤرخ في حياة كمال الصليبي الإنسان، وفي حياة أمة نظر إليها الصليبي بعين المؤرخ، فرأى في تاريخها قصصاً إنسانية كانت نواة عملية تأريخ جديدة بناها على توجّسٍ من المصادر وسعيٍ إلى تبيان الحقيقة. قدّم هذه الشهادات عبد الرحيم أبو حسين، أستاذ التاريخ العثماني في الجامعة الأميركية في بيروت، والدكتور وجيه كوثراني، المدير العلمي للإصدارات في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، والباحث مايكل بروفنس، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة سان دييغو، والدكتور الياس قطار، الرئيس السابق لقسم التاريخ في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية، والباحثة ناديا ماريا الشيخ، والدكتور عبد الرحمن شمس الدين، الباحث في المصطلحات القرآنية التي تصف هويات الجماعات الدينية وأماكنها الجغرافية.

يعترف الباحثون بصعوبة الإحاطة بما أنتجه كمال الصليبي خلال نصف قرن ونيف من البحث والتأليف والتعليم، لكنّهم يحاولون الإضاءة على جوانبَ مهمة من عطائه الجزيل؛ فيُجمعون على ريادته في حثّه على إعادة التفكير في قضايا تاريخية ورفض المسلّمات الموروثة، واهتمامه بعلاقة التاريخ بجغرافية حوادثه، واستناده في تدبير التاريخ إلى فهمٍ عميق للإطار والتاريخ المحليَّين، وتفاعل المستوى المحلي مع المستوى المناطقي أو الإقليمي في الإطار الدولي الواسع.

Ad

صبغة محلية

يستعيد عبد الرحيم أبو حسين، تلميذ الصليبي وصديقه وزميله في التعليم في الجامعة الأميركية في بيروت، في بحثه "كمال الصليبي الإنسان والمؤرخ”، حوادث دالة على شخصية الصليبي ومساهماته في الدراسات التأريخية، والتاريخ السياسي أو التقليدي، ونقد التاريخ، خصوصاً أنّ الصليبي أخضع مصادر التاريخ اللبناني للنقد، وانطلق في كتاباته التاريخية من منظور لبناني، ما أضفى عليها صبغة التاريخ المحلي. كذلك فتنته التفصيلات والغوامض التي صادفها في بحثه. ويقول أبو حسين إنّ الصليبي كان ميالاً إلى الكتابة عن فترات زمنية منفصلة من تاريخ لبنان، وفي حدود جغرافية محدّدة، بدلاً من كتابة تاريخٍ عام للبلاد، فجاءت أحكامه أشد حسماً، خالية من هشاشة المفارقات التاريخية التي تنتج من المزج بين فترات زمنية متمايزة داخل مساحة جغرافية واحدة.

بعد سياسي

يفسّر وجيه كوثراني تغيّر نظرة الصليبي المؤرخ إلى الإمارة اللبنانية وموقع الأمير فخر الدين المعني في الرواية اللبنانية التقليدية، والأساطير التي دعمت هذه الرواية، وانتقاله من التسليم بالرواية والأساطير إلى نفيها وتبيان زيفها، وذلك في بحثه {كمال الصليبي في تأريخه للبنان الحديث ولصورة الأمير المعني: من لبنان} – الملجأ إلى لبنان – المأزق، وينتقده بسبب إغفاله البعد السياسي في وصول اللبنانيين إلى فهمٍ مشوّه لتاريخهم؛ فالمطلوب بحسب كوثراني يتعدى تنظيف التاريخ، أي تصحيحه، إلى تنظيف السياسات المعتمدة لبناء الدولة الوطن والمواطن، أي تصحيحها. فسياسات الحاضر تنتج بيئة علمية تعيد النظر في التاريخ وتنزع عنه النظرة الطائفية أو تعوق إنتاجها، فتنتفي الحاجة حينها إلى أسطرة التاريخ أو تزويره خدمةً لمشروعٍ سياسي ما.

مؤرّخو المشرق العربي

يرى مايكل بروفنس في الصليبي المثال الأبرز لجيلٍ من المؤرخين الذين تلقَّوا تعليمهم على الأغلب في بيروت، وشبّوا بين نهاية الانتداب وعقد الستينيات من القرن الماضي. يقول في دراسته {كمال الصليبي ومؤرّخو المشرق العربي} إنّ إقامة هؤلاء في أوروبا وأميركا الشمالية والدراسة فيهما، لم تُضعفا فيهم وضوح الرؤيا والمشاركة الوجدانية والفهم العميق لتاريخ البلدان التي جاؤوا منها؛ فالصليبي أصرّ على دراسة المنطقة وشعوبها والتغيّرات التي طرأت عليها عبر الأزمنة بشروطهم ورؤاهم وأطرهم الخاصّة، كما يدرس مؤرخو بلدان وأزمان أخرى موضوعاتهم، وتمثّل مساهمتهم الجماعية نتاجاً بحثياً لا يثمّن لدقّته.

مبالغات وشوائب

أمّا الياس القطار فيقول في بحثه «كمال الصليبي: رائد الدراسة العلمية الوضعية لتاريخ لبنان الوسيط» إنّ الصليبي عمل على صوغ معطيات تاريخ لبنان الوسيط بصورة علمية أكاديمية نقدية تحليلية، رابطاً الرواية المارونية بمصادر عائدة إلى زمن الحدث، مصححاً ما فيها من مبالغات وشوائب ونواقص ومغالطات في التواريخ والأسماء والوقائع، فاصلاً الحقيقة عن الأسطورة، معتمداً المنهجية الوضعية، فيستنتج أنّ التأريخ الماروني كان في الأساس مدعاةَ فخر لطائفة صغيرة مغلقة على ذاتها ومحاطة بالأعداء، حافظت مئات السنين على جبالها حيث تعيش بحرّية نسبية، وفي حال دفاع دائم ضد تهمة الهرطقة التي اتُهمت بها.

في التاريخ الإسلامي

في دراستها {كمال الصليبي: في التاريخ الإسلامي في العصور الوسطى}، تقول ناديا الشيخ إنّ الصليبي قدّم فهماً بديلاً للسائد في تاريخ بلاد الشام في ظل الحكم الإسلامي، وجزيرة العرب ولبنان في العصر الوسيط، بتشديده على أهمية الجغرافيا، وإدراكه أهمية تحليل العوامل المحلية والإقليمية والدولتية بخطوط متوازية. كما تحدّى التحقيب التقليدي في الدراسات العربية والإسلامية، مُسائلاً ما استقر عليه التاريخ من حقب، ومقارباً الأمر بنمط تحليلي جديد.

نظرية أصيلة
ختام الكتاب دراسةٌ لعبد الرحمن شمس الدين، عنوانها "جغرافيا التوراة ونظرية الصليبي: مقاربة تمهيدية من منظور عربي ــ إسلامي”، يقول فيها إنّ الصليبي قدّم نظرية أصيلة في موضوع جغرافيا التوراة ومكان الحوادث التوراتية، وفي أنّ الجغرافيا التوراتية لم تحدث في فلسطين بل في شبه الجزيرة العربية، فيقدّم شمس الدين معطيات من التراث العربي تتوافق مع رؤية الصليبي، باحثاً في تاريخ شعب العماليق التوراتي الذي يُعدّ في الفكر العربي قبيلة عربية بائدة.