بناية ماتيلد هي الرواية الأولى للكاتب اللبناني حسن داوود، التي أعقبها بـ11 رواية كلها روايات ناجحة تكررت طبعاتها وتُرجمت إلى لغات عديدة، وبرغم أن بناية ماتيلد هي روايته الأولى فإنها ولدت بدون تعثرات وأخطاء العمل الأول، وكنت قد سمعت عنها من أصدقاء قرأوها لكن لم أحصل عليها إلا في هذا العام بطبعتها الخامسة عن دار الساقي.

وتزامن صدور هذه الرواية مع أحداث الحرب اللبنانية فحصدت التوقيت المناسب والزمن الملائم لانتشارها ونجاحها، وتستحق هذا النجاح لأنها ربما كانت من أوليات الروايات اللبنانية التي اعتنت واهتمت بتفاصيل المكان وهو بناية ماتيلد في بيروت، هذه بناية حقيقية وليست متخيلة وكل سكانها وأحداثها كانت صحيحة، فهي البناية التي سكنها حسن داوود مع عائلته حين جاءوا من ضيعتهم ليسكنوها، الجد والأب والأم والعم والعمتان وزوجاهما ومجموعة من أولادهم كان الكاتب واحدا منهم.

Ad

هذه العمارة شهدت أحداثاً وتحولات كثيرة قبل الحرب حيث أيام عزها، وبعد الحرب حين بدأت تتداعى بفضل القصف وهروب بعض من سكانها، ونزوح المهجرين إليها حتى لم يبق فيها إلا عمة الكاتب، لينتهي أمر العمارة بتفريغها ممن بقي فيها وهدمها۔

حسن داوود أجاد تصوير شكل وتفاصيل بناء العمارة سواء كان من خارجها أو من داخل شققها حتى أن القارئ يشعر كأنه واحد من سكانها متعددي الجنسيات من لبنانيين وأرمن وعائلة فرنسية وأخرى روسية بمستويات اجتماعية مختلفة، لكنهم خلقوا لهم مجتمعهم الخاص في هذه البناية وتآلف بعضهم مع بعض بالرغم من اختلاف عاداتهم وسلوكياتهم، وهو ما يعكس طبيعة المجتمع اللبناني المنفتح على جميع فئاته وتقبله للاختلافات خاصة قبل حدوث الحرب الطائفية فيه.

الملاحظ في هذه الرواية هو توصيفها الدقيق للمكان، وهو بناية ماتيلد، وطريقة بناء الشقق وتوزيع البلكونات فيها والمطبخ والحمام العربي والافرنجي وطريقة فرش الأثاث وشكل البوابة ودرابزين السلم المتكرر الصباغة، وكذلك "الحيطان" التي حين تنقشط تكشف أدواراً متعددة من الأصباغ القديمة تحتها، وحتى سكان الشقق لم يسلموا من ذاكرة وعين الكاتب حيث أحصاهم ورصد طريقة سلوكهم وعاداتهم وتصرفاتهم، فمثلا يصف جلوس مدام ماتيلد على سريرها بطريقة مضحكة، حيث تمدد ساقيها أمامها على السرير وتضمهما إلى بعضهما كأن الكاتب جالس يراقبها بمنظاره، مثل هذا المشهد: "ماتيلد تعودت أن تزور مدام خياط- تخرج من بابها إلى باب جارتها، قاطعة أربع خطوات في الذهاب ومثلها في الإياب- لم يرق لها إلا مدام خياط، الطويلة، الصامتة مثلها، والتي، مثلها أيضاً، تحسب التحيات على جيرانها في البناية".

وهذا مشهد آخر جميل: "حين تأتي النسمة تقول أمي: أتت النسمة، كأنها تنبهنا إليها قبل أن تعبر من الشباك أو تتلاشى في الغرفة- أتت النسمة، تقول، فيأخذ أخي نفساً عميقاً فيما يرتفع رأسه إلى الأعلى، أما أخي الأصغر فيظل منشغلاً بالتحديق في الفناجين المصفوفة أمامه".

وحين يصف مشهد العمارة بعد القصف تأتي هذه الصورة المدهشة والمؤلمة والتي هي ذاكرة وشاهد على كل بشاعة الحروب: "كان فيما بقي منه كأنه غرف عارية مفتوحة أمام المارة- على الحلقة المعدنية التي قرب المغسلة ما زالت المنشفة مدلاة، وأواني المطبخ خرج بعضها من الباب المفتوح وتناثر على ما بقى من الممشى وعلى الركام في الطابق الأرضي۔ كنباية في الزاوية، الثريا والورق اللاصق الذي يغطي الحائط، كان المارة فيما يشاهدون القسم الباقي من البيت كأنهم يدخلون إليه متلصصين مختلسين النظرات۔ والمنشفة المتدلية أوحت بامرأة كانت تخطر بين الغرف والمماشي".

رواية بناية ماتيلد هي حكاية المكان بيروت ما قبل الحرب وما بعدها وما حدث من تغيرات لناسها، والملاحظة التي انتبهت إليها وهو الفرق بين طبيعة سكان العمارات في بيروت ومصر، حيث العلاقة في الجانب اللبناني أو البيروتي على الأخص في تواصل وألفة بين سكان العمارة والحي، لكنه لا يشبه في حميميته العلاقة بين سكان العمارات والأحياء المصرية حيث تذوب الخصوصية خاصة في ما بين الطبقة المتوسطة والشعبية وهو ما قرأته في الروايات المصرية مثل "عودت الروح" لتوفيق الحكيم وروايات نجيب محفوظ وغيرها كلها تكشف اندماج سكان العمارات والحي بكامله حتى تنعدم خصوصية الفرد فيها.