العالم الذي عاش فيه عماد حمدي أكثر من أربعين عاماً يكاد ينزوي، ويذهب بلا أثر. قللت الشيخوخة فرص مشاركته في الأفلام وتبخرت فرصة تكوين ثروة بعدما أخذت زوجته الثالثة نادية الجندي كل ما يملك وتركته لا يملك من حطام الدنيا شيئاً، فاقام مع شقيقه التوأم عبد الرحمن في شقة متواضعة، بعدما انفصل هو أيضاً عن زوجته، وعاش وحيداً بعد تقاعده من عمله في الخارجية سنوات طويلة خارج مصر، فاجتمع التوأمان بعد سنوات العمل والافتراق.

مرّت الأيام والأسابيع ثقيلة على الشقيقين، لكنها لم تكن أكبر همهما، فسرعان ما هاجم المرض قلب فتى الشاشة، ونُقل إلى معهد القلب في القاهرة لتلقي العلاج والخضوع لبعض الفحوص، ورافقه شقيقه عبد الرحمن الذي بقي إلى جواره في رحلة العلاج، بالإضافة إلى نجل عماد حمدي نادر، الذي كان يستعد في تلك الفترة للزواج. بعد شهر أمضى غالبيته في غرفة الإنعاش تحت رعاية طبية فائقة، خرج فتى الشاشة من معهد القلب وعاد إلى منزل شقيقه.

Ad

آلام المرض وتقدم العمر وتغير حال السينما المصرية كلها عوامل عززت عزوف المنتجين عن الاستعانة بفتى الشاشة في الأعمال الفنية التي قدمت في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، فاعتصر الألم النفسي عماد حمدي بعد انحسار الأضواء عنه، فأدرك أن الزمن تغير لكنه كان يدرك جيداً إمكاناته وقدرته على العطاء المتجدد متى أعطيت له نصف فرصة.

جاء الفرج على يد المخرج حسام الدين مصطفى، الذي أرسل سيناريو فيلم {سونيا والمجنون} إلى عماد حمدي، وعرض عليه المشاركة فيه مع نجلاء فتحي، نور الشريف، سعيد صالح، محمود ياسين، فجسد شخصية الأب الممثل الذي كان مشهوراً، وتبيع ابنته جسدها بعد تقدم والدها في العمر، وانحسار الأضواء عنه.

وافق حمدي لأن دوره في الفيلم يعبر عن معاناته الشخصية، لا سيما في المشهد الذي يتسابق فيه أولاده على مساعدته لارتداء البذلة الجديدة التي سيعود بها إلى الأضواء، قبل أن يفاجأ بإلغاء الدور الذي رشح له، فيخلع البذلة في مشهد حزين، ويبيعها ويذهب إلى بار الخواجة مانولي لنسيان ما حدث معه.

اتحد فتى الشاشة مع الشخصية، لم يبذل أي مجهود في التعبير عنها، كانت وسيلة للتعبير عن حاله ووضعه ومعاناته مع الحياة،. لكن احتاجت المأساة إلى مشهد إضافي لتكتمل، فلدى عرض الفيلم، صدم عماد حمدي بحذف معظم مشاهده بشكل جعل الشخصية تخرج مبتورة الأحداث، ولم تظهر كما تصورها في السيناريو وأداها أثناء التصوير، فسأل المخرج بغضب حول أسباب حذف مشاهده، فأجابه أن السبب طول مدة الفيلم، وكان يجب أن يطاول الحذف شخصيات غير رئيسة.

رحيل التوأم

ازدادت نقمة عماد حمدي على الوسط الفني، بسبب التجاهل الذي راح يواجهه، وخرج من تجربة الفيلم الأخير يعاني جرح النكران ممن وقف معهم في بداية حياتهم، خصوصاً زوجته الثالثة نادية الجندي التي صعدت بفضله إلى قمة النجومية، وراحت تشارك في أفلام استهلاكية معروفة بأفلام {المقاولات}، التي تعالج قضايا مهمة بشكل سطحي وتركز على الفهلوة والاستهلاكية.

وسط أحزان عماد حمدي، شعر شقيقه التوأم عبد الرحمن بآلام في الصدر وضيق حاد في التنفس، فنقل إلى المستشفى ونجح الأطباء في إسعافه، وأخبروه أنها أزمة طارئة لن تتكرر بعد تلقي المسكنات، لكن بمجرد عودته إلى منزله، عاودته الآلام، فحضر الطبيب إلى المنزل، لأن حالته الصحية لم تسمح بنقله إلى المستشفى، مصطحباً معه قارورة أوكسجين، وحاول إسعاف عضلة القلب، وطلب من عماد حمدي أن ينفخ في فم شقيقه ليمنحه قبلة الحياة، لكن روحه صعدت إلى خالقها، وفقد عماد في لمح البصر شقيقه التوأم الذي عاش أحلى سنوات العمر.

مع رحيل شقيقه، فقد عماد الأمل الأخير في التعلق بالحياة، وعاش عزلة اختيارية، فهو لم يعد راغباً في حياة تتسرب من بين يديه، أو في التواصل مع أحد أو زيارة قريب أو بعيد، ورافقه الاكتئاب حتى رحيله لكن بنسب متفاوتة، لذلك لم تكن عودته إلى العمل سهلة، ففضلاً عن حالته النفسية، تدهورت صحته وعانى مشاكل في العين نتج منها عدم قدرته على مشاهدة التلفزيون، ففقد صلته بالعالم ولم يعد يتابع الأعمال الدرامية التي تعرض على الشاشة الصغيرة.

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، أصيب عماد بجلطة في المخ، أجبرته على الخضوع للعلاج في مستشفى المعادي للقوات المسلحة، وكانت تحية كاريوكا أكثر فنانة تزوره، وتجلس معه ساعات لإطعامه، وتشارك زوجته الأولى فتحية شريف التي اعتنت به خلال رحلة مرضه.

بعد خروجه من المستشفى لاحقته آلام العين، وبعدما عاينه الدكتور صيام، طبيبه الخاص، أخبره أنه يعاني وجود مياه على العين تستلزم الخضوع لجراحة دقيقة تحت إشراف أطباء القلب والمخ والأعصاب، لتجنب أي أخطار قد يتعرض لها خلال الجراحة، لكن نتيجتها غير مضمونة.

فقد عماد حمدي القدرة على قراءة الصحف أو مشاهدة التلفزيون بشكل واضح، لذلك حرص نجله نادر على مرافقته يومياً وقراءة الصحف له، ليظل على صلة بالواقع، وكانت زوجته الأولى فتحية شريف ترعاه في أيامه الأخيرة، وقررت أن تعود إلى عصمته كزوجة بعد انفصال دام نحو ربع قرن، غيرت حياته وأعادت له بعض الأمل، وخففت عنه آلام الوحدة.

لقاء الشعراوي

مضت الحياة بعماد حمدي، حتى نشرت صحيفة {الجمهورية} القاهرية، خبراً حول عيد ميلاده السبعين، فانهالت عليه الاتصالات من أصدقائه في الوسط الفني، ورغم الاحتفال العائلي الذي أعدته زوجته فتحية شريف مع ابنهما نادر في المساء بمشاركة حفيده عماد نادر، فوجئ بمجموعة من الفنانين يطرقون بابه ومعهم قالب حلوى كبير، وبسبب ضيق المكان جلسوا على الأرض ليحتفلوا بعيد ميلاد فتى الشاشة الأول، في أجواء خففت عنه شعور الوحدة والتجاهل، على رأس الحضور، سهير رمزي ووالدتها وسهير البابلي، ونجوم عمل معهم عماد حمدي طوال مشواره، جاؤوا للاحتفال معه بعيد ميلاده واستمرت السهرة حتى الصباح الباكر.

بعد أيام، طرق الشيخ محمد متولي الشعراوي باب عماد حمدي، برفقة مجموعة من رجال الدين، فدهش الفنان القدير لأن لا علاقة تربطه بالداعية الإسلامي، لكنه رحب بهم وكان من بينهم وزير الأوقاف -حينذاك-أحمد طعيمة. قطع الشعراوي تساؤلات حمدي، وأخبره أن سبب الزيارة الاطمئنان على صحة الفنان الكبير بعدما علم بتدهورها من الصحف.

أكثر من ساعتين أمضاها الشيخ الشعراوي في منزل عماد حمدي، وكان الأخير سعيداً بالزيارة غير المنتظرة، فنجحت في التخفيف عنه وأخرجته من الحالة النفسية التي كان يعيشها، ذلك أن حديث الشعراوي مسّ قلبه وأخرجه من حالة العزلة والاكتئاب، لكنه لم ينس شقيقه الراحل، الذي كان يتذكره دائماً ولا يفارقه الكتاب الذي ألفه شقيقه بعنوان {مذكرات دبلوماسي غير مدونة} ضمنه ذكريات عمله في وزارة الخارجية.

عرض ختامي

عندما خفت بريق الشهرة، وكاد الزمن يطوي صفحة عماد حمدي، تلقى الأخير عرضاً للمشاركة في فيلم {سواق الأتوبيس} (إنتاج 1982)، للمخرج عاطف الطيب. قرأ الشخصية التي سيجسدها وكانت لرجل كبير في السن يعاني غدر الزمن وتلاعب زوج ابنته برأسماله. تحمس للقصة التي وجد فيها تعبيراً عن معاناته الشخصية في أيامه الأخيرة، فوافق على الدور وشعر بأنه سيكون آخر أعماله السينمائية.

يجسد عماد في الفيلم شخصية صاحب ورشة أخشاب، تحجز الضرائب عليها نتيجة تلاعب زوج ابنته، ويحاول ابنه الأكبر (نور الشريف) إنقاذ الورشة لكن عندما ينجح يكون الأب قد مات، بهذا المشهد ودع عماد حمدي السينما، وكانت مشاركته في {سواق الأتوبيس} آخر أدواره السينمائية.

بعد انتهاء التصوير، أراد المخرج علي عبد الخالق الاستفادة من عودة عماد حمدي إلى السينما، ورشحه للمشاركة في فيلمه الجديد {العار}. وافق حمدي على مضض، وبعدما انتهى من تصوير مشاهده تعرضت لحريق أتلفها، لكن الفنان الكبير رفض إعادة تصويرها وقرّر الانسحاب من الفيلم.

مع بداية عام 1984، ازدادت أمراض الشيخوخة على عماد حمدي وارتفعت حدة الاكتئاب، بعد تجاهل أصدقاء الوسط الفني له، باستثناء اتصالات رفيقة عمره مديحة يسري التي لم تمنعها وفاة ابنها الوحيد عمرو في حادث تصادم من الاطمئنان عليه بين الحين والآخر، كذلك كان على موعد مع اتصالات منتظمة من شادية للاطمئنان على صحته.

في الأسبوع الأخير من حياته، لم يعد يرغب في تناول الطعام أو التحرك من السرير، كان يردد {أنا عايز أموت... أنا زهقان}، وغيرها من عبارات تحمل معنى الرحيل والزهد في الحياة. وراح يسترجع ذكرياته مع أخوته، ووالديه، وزوجاته، وكان حديثه مليئاً بالشجن والحزن على الراحلين، ورغم نصيحة الأطباء له بالإقلاع عن التدخين بسبب ضعف عضلة القلب، وخطورته على صحته، فإنه في الأيام الأخيرة أدمن تدخين السجائر ضارباً بنصائح الأطباء عرض الحائط.

حانت لحظة النهاية في ليلة 28 يناير 1984. شعر عماد حمدي بقرب الأجل، فطلب من زوجته إضاءة نور غرفته، وتركه لينام. وفي صباح اليوم التالي، صرخ بصوت مرتفع من الآلام، فأسرعت زوجته إليه لكنها جاءت بعد صعود الروح إلى باريها، لم تتوقف عن الصراخ والاستغاثة بالجيران. وأكّد الطبيب الذي وصل بعد دقائق، وفاة فتى الشاشة الأول إثر أزمة قلبية عن عمر ناهز 74 عاماً.

كيف تخلص من جائزة مهرجان القاهرة؟ السينمائي؟
سيطرت الأزمة المالية على عماد حمدي في أيامه الأخيرة. كان يعيش اليوم بيومه لعدم وجود أي مورد رزق له، بسبب قلة الأعمال التي كان يتعاقد عليها في تلك الفترة، وتغير طبيعة السينما والتلفزيون، وعدم قدرته على الوقوف مجدداً على خشبة المسرح.

وبينما كان حمدي في دبي يصور مسلسلاً تلفزيونياً، تلقى اتصالاً هاتفياً من أحد أصدقائه يخبره بحصوله على جائزة في «مهرجان القاهرة السينمائي»، وفوجئ بعدها بأسرة المسلسل تحضر له جائزة المهرجان وتحتفل معه بالمناسبة، لأن لجنة تحكيم دولية مكونة من شخصيات غربية، باستثناء المخرج المصري كمال الشيخ، منحتها له، ولعدم وجوده في القاهرة تسلم الجائزة عنه المنتج ممدوح الليثي.

الأجواء الاحتفالية التي أقامتها أسرة المسلسل في دبي لعماد حمدي، جعلته يشعر ببعض السعادة، خصوصاً عند تسلمه الجائزة من ممدوح الليثي، لكن الأزمة المالية التي كان يعانيها، جعلت فرحته تتلاشى، وشعر بأن التقدير الأدبي جاء بعد فوات الأوان، فهو لم يعد يملك القليل ولا يطمح في الكثير، بل يطلب الستر في ما تبقى له من أيام، لكن أين هو عندما تتكالب الأيام على المرء؟

نظر عماد حمدي إلى الجائزة طويلاً، تذكر كثيراً من مشاهد أفلامه، والتراث الذي تركه خلفه، أدرك أن اسمه مخلد في تاريخ السينما المصرية، لكن هذه المكانة لم تكن تساوي بضعة جنيهات لا يملكها. اتضحت عبثية المشهد أمام عينيه، تقمص شخصية أنيس زكي التي أداها في فيلم «ثرثرة فوق النيل»، فحمل الجائزة وخرج من منزله وتوجه إلى أقرب قطعة أرض خلاء، وألقى بها من دون ندم. ربما تذكر الإفيه الأشهر الذي كان يردده في الفيلم: «الوضع في منتهى العبث».