منذ أن اتخذت تركيا السياسة المتشددة وركبت موجة الإسلام السياسي ببعده المتطرف، كنا نحذر بأن تبعات هذا التوجه ستنعكس على تركيا ذاتها، وستكوى بنيران الإرهاب الذي كانت تدعم جانباً مهماً منه مالياً ولوجستياً وأخيراً عسكرياً مباشراً.

تركيا بنموذجها الإسلامي المعتدل كانت محط أنظار الجميع باعتبارها بديلاً يتناسب مع تطلعات الشعوب المسلمة وفشل النماذج السياسية البالية التي حكمت معظم البلاد العربية والمسلمة منذ الحرب العالمية الثانية باسم القومية أو المؤسسة العسكرية أو العوائل الملكية وغيرها، وبدأت الحكومة الإخوانية عهدها بإقرار مبدأ العلمانية التركية وتركت الحانات والصالونات وأشكال التحرر الشخصي كما هي، وركزت على الاقتصاد وتبنت شعار "زيرو مشاكل" مع جيرانها، ونجحت في ذلك إلى حد كبير واكتسحت الانتخابات البرلمانية لعدة دورات.

Ad

لكن مع اندلاع الأزمة السورية ألقت حكومة إوردغان بكل ثقلها مع المعارضة المسلحة بدءاً بالجيش الحر والإعلان المبكر عن إسقاط النظام بالقوة، الأمر الذي لم يترك لها أية خيارات دبلوماسية أو سياسية، وتحولت إلى أحد المراكز الرئيسة لقيادات الجماعات المسلحة على الحدود الشمالية لسورية، وبالتدريج وبعد انهيار التيارات العلمانية هيمنت المنظمات الدينية المتشددة والإرهابية بما فيها "داعش" وجبهة النصرة على القرار التركي.

تركيا بدورها اعتبرت هذه الجماعات أدوات لها وجسراً لفكرة إحياء الإمبراطورية العثمانية، وذلك في خطأ فكري وسياسي فادح، لأن هذه الجماعات بدورها اعتبرت بعض الحكومات ذات التوجه الديني مطية لها للعبور بفكرتها حول دولة الخلافة التي تختلف تماماً مع النموذج الحديث، ذلك النموذج الذي يتبنى الذبح والسبايا وتكفير كل الملل الأخرى بما فيها الدول الإسلامية القائمة بلا استثناء.

الورطة التركية التي وضعتها في مربع المشاكل مع كل جيرانها بل حلفائها الاستراتيجيين في أوروبا والولايات المتحدة، باتت الراعي الأول للتطرف والإرهاب في المنظور الغربي، أما البديل الاستراتيجي المتمثل في روسيا فلم يكن الخيار الجديد لأنقرة رغم العلاقات المتينة تجارياً واقتصادياً مع موسكو، فدخلت في حرب سياسية مع الدولة العظمى التي ألقت بكل ثقلها مع الحكومة السورية بعد إسقاط الطائرة العسكرية الروسية فوق الأراضي السورية والوقف المتشدد بعد ذلك في عدم الاعتذار، الأمر الذي ضيّق على أنقرة الخناق الدبلوماسي.

بعد الانتصارات الميدانية لسورية وحلفائها وفشل مفاوضات السلام بدأت تركيا تدفع الثمن وخاصة أنها احتضنت عشرات الآلاف من المقاتلين الشرسين، واتهمت الحكومة التركية كما غيرها من الحكومات التي أيّدت الجماعات المسلحة بأنها خذلتها، وحان وقت الانتقام منها، وهذا ما حدث بالفعل عبر سلسلة العمليات الإرهابية التي تشهدها تركيا خلال الشهور الثلاثة الماضية، والتي ألحقت بتركيا وأمنها واقتصادها الضرر البالغ.

لهذا بادر إوردغان إلى الاعتذار الرسمي للرئيس بوتين، وأعاد العلاقات مع إسرائيل ووضع نفسه تحت رحمة أجندات الآخرين بعدما كان يعلن نفسه الخليفة الإسلامي المرتقب، وبعد كل الخسائر والدمار والدماء البريئة التي سالت في سورية والعراق وفي تركيا نفسها يعيد الرئيس التركي عقارب الساعة إلى قبل خمس سنوات، وهذه هي في الواقع مأساة العالم العربي والإسلامي في فكرهما الضحل وسياساتهما المبنية على الانفعال والمصالح الضيقة غير المدروسة، والمأساة الأكبر هي أن الأبواق التي طبلت لتركيا الإسلام وحامية الحمى هي التي تبارك لها اليوم بعد أن وضعت يدها بيد بوتين "الإرهابي" والكيان "الصهيوني" وأيضاً دفاعاً عن حياض الإسلام والمسلمين!