في ظل انخفاض قيمة الجنيه الإسترليني، سيجد المغتربون في المملكة المتحدة صعوبة بالغة في تسديد المبالغ المستحقة عليهم في أوطانهم الأصلية.عندما تدفع كاتي سيدل، وهي أميركية تقيم في المملكة المتحدة، الشهر الحالي القسط المستحق من قرض الطالب، الذي حصلت عليه حين كانت تدرس في الجامعة في الولايات المتحدة، ربما لن يتبقى لها الكثير من صافي الراتب بعد اقتطاع مبلغ كبير منه.
كاتي، البالغة من العمر 29 عاماً، هي واحدة من بين الكثيرين من المغتربين المقيمين في لندن، الذين يتابعون بحذر تداعيات تصويت بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي، وقد بدأوا يعانون بالفعل إثر هبوط قيمة الجنيه الإسترليني بنسبة 10 في المئة أمام الدولار الأميركي. وقالت كاتي: «نحن نشهد تغيراً هائلاً، إذ يرسل أغلبنا (المغتربون القادمون من أميركا) أموالاً إلى الولايات المتحدة».فحين تمضي الحكومة البريطانية قدماً في تنفيذ إجراءات الخروج من الاتحاد الأوروبي، وإيقاف العمل بمبدأ حرية الحركة بين دول الاتحاد الأوروبي، فستكون وطأة القرار أشد على الأوروبيين المقيمين في الولايات المتحدة.لكن هذا لا يمنع أن تصويت بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي له تبعات خطيرة وغير متوقعة على عشرات الآلاف من المغتربين القادمين من بلدان خارج الاتحاد الأوروبي، الذين يواجهون مستقبلاً مجهولاً. وبدأ الكثيرون منهم بالفعل يلمسون انخفاضاً مفاجئاً في قيمة رواتبهم، لأنهم يتلقون رواتبهم بعملة البلد المضيف، أي الجنيه الإسترليني، في حين عليهم أن يسددوا أقساطاً عقارية أو قروضاً أخرى في وطنهم بالعملة المحلية لبلادهم.لكن العملات في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وغيرها من البلدان خارج الاتحاد الأوروبي مازالت تحتفظ بقوتها، وهذا يعني أنك لكي تسدد قسطاً شهرياً قيمته 1000 دولار أميركي، ستدفع 750 جنيهاً استرلينياً، بعد أن كنت تدفع 640 جنيهاً إسترلينياً فقط منذ عام مضى.لكن ثمة مغتربين آخرين يعتريهم القلق بشأن الاستقرار الوظيفي وتصاريح الإقامة، وباتوا في حيرة من أمرهم، لا يعلمون ما إن كانوا سيسمح لهم بالعمل في المملكة المتحدة أم لا.إذ أنهم ربما يفقدون وظائفهم بسبب التدهور الاقتصادي، الذي تشهده المملكة المتحدة، بالتالي سيفقدون أيضاً الحق في البقاء والعمل في البلاد، الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالوظيفة.وينخرط الكثيرون من غير الأوروبيين في العمل في قطاعي المال والمصارف في لندن، وقد بدأت بعض الشركات في ذلك القطاع تخطط بالفعل لنقل موظفيها إلى بلدان أخرى داخل أوروبا، حتى أن البعض حذر من احتمال تسريح موظفين.وذكر بنك «إتش إس بي سي»، على سبيل المثال، لبي بي سي أنه قد ينقل 1000 موظف من لندن إلى باريس، في حال بدأت المملكة المتحدة في إجراءات الخروج من الاتحاد الأوروبي.وحذّر المدير التنفيذي لبنك «جيه بي مورغان»، أحد أكبر البنوك في العالم، الذي يوظف 16 ألف شخص في المملكة المتحدة، منهم ما يزيد عن 4 آلاف موظف في بورنموث، في وقت سابق في شهر يونيو، من أن البنك لن يكون لديه خيار سوى تقليل عدد موظفيه في المملكة المتحدة، ونقل الوظائف إلى أماكن أخرى في أوروبا.وقالت كيت فيتزباتريك، مستشارة في مجال انتقال الموظفين من بلد لأخر لدى مؤسسة «ميرسر» لخدمات الاستشارات في مجال الموارد البشرية في لندن، إن خروج بريطانيا وجه ضربة قاصمة للمغتربين، الذين تفاوضوا من أجل إبرام عقود للعمل داخل بريطانيا في مقابل الحصول على مكافآت ومزايا، ويعملون لدى منظمات تعاملهم معاملة الموظفين البريطانيين.وذكرت أن المغتربين الذين يعملون في بريطانيا، وفقاً للأوضاع المحلية، ولديهم التزامات «مالية» في الخارج قد يكونون الأكثر تأثراً بخروج بريطانيا.
التخطيط المسبق
بدأ بعض المغتربين بالفعل التخطيط لحماية رواتبهم بالتفاوض مع الشركات في وطنهم. ومن بين هؤلاء بين فينبيرغر الذي يفكر جدياً في التفاوض مع صاحب العمل في الولايات المتحدة، إذا واصل الإسترليني انخفاضه أمام الدولار، للحصول على علاوة ترتبط بالعملة، من أجل تعويض المبلغ، الذي تجنيه الشركة العاملة في مجال الكمبيوتر، من وراء اقتطاع 10 في المئة من راتبه، حين تدفعه له بالجنيه الإسترليني.وقال فينبيرغر: «قالت لي زوجتي، بما أنك توفر أموالاً للشركة، ربما يجدر بك أن تطلب علاوة».وعلى الرغم من أنه لم يعان بعد من ضائقة مالية، فإنه يحاول تدبير نفقات السفر خارج المملكة المتحدة، الذي باتت تكلفته أعلى الآن من ذي قبل بعد تهاوي سعر الجنيه الإسترليني.معضلة الزوجين
يخشى المغتربون، الذين يعملون في بريطانيا منذ فترة طويلة، من دون كفالة من شركات متعددة الجنسيات، مما قد يحدث لاحقاً.قالت سيدل، أميركية الجنسية ومتزوجة من ألماني، حصل الكثير من المغتربين في المملكة المتحدة على تأشيرة عمل لأن أزواجهم أو زوجاتهم يحملون جنسية دولة من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، ولم يحصلوا عليها بموجب كفالة صاحب عمل.ونظراً إلى احتمال تجريد زوجها من مزايا الاتحاد الأوروبي، بينما يعيش في لندن، تخشى سيدل من أن تجد نفسها بمفردها عندما يحين موعد تقديم طلب للحصول على تأشيرة عمل.ويعتزم مغتربون آخرون اتخاذ تدابير فورية لحماية أموالهم، ومنهم جون ستيرلنغ، سمسار عقارات، الذي يخطط للعودة إلى لوس أنجلس، بعد أن أمضى عامين في لندن، لكنه سيواصل الاضطلاع بأعمال سمسرة العقارات في كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة. وقال ستيرلنغ، إنه بانتقاله إلى الولايات المتحدة، سيتفادى آثار عدم استقرار الجنيه الإسترليني، وسيحافظ على أعماله، التي رسخها في مجال العقارات أثناء فترة بقائه في لندن.وتابع ستيرلنغ، الذي يسعى إلى تأجير شقته من الباطن، والانتقال إلى الولايات المتحدة هذا الصيف: «أنا منتظر لأرى ما ستصير إليه الأمور. لقد بعت بالفعل كل ممتلكاتي المادية هنا الخميس الماضي».مصاعب التوظيف
وقال أووين دربيشاير، أستاذ مشارك في السلوك التنظيمي بكلية سعيد لإدارة الأعمال بجامعة أكسفورد، إن الوافدين متخوفون الآن من الانتقال إلى المملكة المتحدة لئلا تصبح وظائفهم في مهب الريح بمجرد الوصول إلى هناك، وهذا سيصعّب من تعيين موظفين جدد.وأضاف دربيشاير، إذا كنت تنوي السفر للعمل في الخارج، عليك أن تضع في الحسبان: هل يجدي الذهاب إلى لندن في هذه الفترة؟ وهل ستظل هذه الوظيفة باقية لسنتين أو ثلاث سنوات أخرى؟. وتابع: «تواجه الشركات المهمة الأصعب، وهي استقطاب أُناس يقبلون بالعمل في ظل هذه التغيرات المالية». وتوقع في حالة استمرار هذه الحالة من عدم الاستقرار، أن يختار المغتربون ذوو الكفاءات العالية، الذهاب للعمل في المراكز المالية القريبة من المملكة المتحدة، مثل دبلن وفرانكفورت، حيث يتلقى الموظفون رواتبهم بعملات أخرى غير الجنيه الإسترليني.أما في الوقت الحالي، فيجب أن يركز أصحاب العمل في المملكة المتحدة على ضمان انتقال البريطانيين العاملين بالخارج لمصلحة مؤسساتهم بسلاسة إلى المملكة المتحدة، إذا اختاروا العودة إلى أوطانهم.وقال دربيشاير: «إلا أن المشكلة، التي تستحوذ على القسط الأكبر من اهتمام أصحاب العمل، هي أن توقيت فترة تكليف هؤلاء المغتربين ربما يحول دون عودتهم إلى المملكة المتحدة». وقد جمّد سترلنغ، سمسار العقارات، جميع التعيينات في المملكة المتحدة. وقال سترلنغ، إنه بدلاً من أن يوظف مبرمج كمبيوتر من سان فرانسيسكو للانضمام إلى فريقه في المملكة المتحدة، سيبحث عن شخص ليعينه خارج المملكة المتحدة، على أن يدفع له راتبه بعملة أكثر استقراراً.كما يعتزم نقل موظفين اثنين آخرين، في نهاية الأمر، إلى خارج المملكة المتحدة. وتابع: «توجد دول أوروبية أخرى غير المملكة المتحدة يمكننا أن نبدأ فيها أعمالنا».الاسترشاد بحالات سابقة
على الرغم من هذه الحالة من القلق والغموض، التي تخيّم على المملكة المتحدة، يقول الكثير من الاقتصاديين، إنه لا داعي للخوف الآن. وتقول فيتزباتريك لدى مؤسسة «ميرسر»، إن الشركات الكبيرة متعددة الجنسيات، اعتادت التعامل مع حالات تهاوي العملات، ولديها في الغالب سياسات لحماية موظفيها.وأضافت أن العملات في البرازيل ونيجيريا وروسيا سجلت، في العام الماضي، هبوطاً حاداً يفوق هبوط قيمة الإسترليني بمراحل، وطالما وضعت معظم الشركات خططاً وتدابير، تحسباً لوقوع أحداث مشابهة، من أجل التعادل الضريبي، الذي يدفع بموجبه المغترب الضرائب وفقاً للنظام الضريبي المعمول به في وطنه، وتزايد البدلات ودفع الرواتب بعملتين.وقالت فيتزباتريك: «لكننا ننصح الشركات بالانتظار، وإجراء بعض التعديلات بأثر رجعي. فلا نستطيع أن نقيم بعد ما ستؤول إليه الأمور».ورأت فيتزباتريك أنه في أعقاب التصويت، قد تشهد الشركات في المملكة المتحدة، التي توظف مغتربين تزايداً في أعداد الموظفين، الذين يفضلون الحصول على رواتبهم بالعملة المتداولة في وطنهم.بالطبع هذا الأمر سيعود بالنفع على البعض، الذين سيجنون مزايا انخفاض الإسترليني، التي ستمكنهم من الاستثمار في المملكة المتحدة بدلاً من أن يستثمروا في وطنهم.ويعتزم فينبيرغر الآن بيع منزله في الولايات المتحدة، الذي ازدادت قيمته في الوقت الحالي، والتوقف عن سداد أقساط الرهن العقاري الشهرية هناك، ليستثمر في المقابل في سوق العقارات بلندن الذي اشتهر بأسعاره الباهظة، إذ يصب انخفاض الجنيه الإسترليني لمصلحته.ويقول فيربيرغر: «بين عشية وضحاها زادت قدرتي الشرائية».