منذ أن صاغ عالم الكمبيوتر الأميركي جون مكارثي مصطلح "الذكاء الاصطناعي" في عام 1955، تصور الرأي العام أجهزة الكمبيوتر والروبوتات الحية التي تفكر وتتصرف مثل البشر، ورغم أن هذا الأمل قد يتحقق على أرض الواقع مستقبلا، فإنه لا يزال، في الوقت الحالي، بعيد المنال.لكن حدود الحوسبة المحتملة ليست أقل إثارة، فقد دخلنا ما نسميه في "آي بي إم" العصر المعرفي، وتعزز الاختراقات والإبداعات في مجال الحوسبة قدرتنا على استيعاب كميات كبيرة من البيانات واستعمالها، وتوافر الإرشاد بشأن بعض أهم القرارات في العالم، ويحتمل أن تحدث ثورة على صناعات بأكملها.
ويشير مصطلح "الحوسبة الإدراكية" إلى الأنظمة التي ستصبح مبنية على التعلم من التجارب، بدلا من أن تكون مبرمجة بشكل واضح، وعن طريق استخراج المعلومات المفيدة من البيانات غير المهيكلة، تقوم هذه النظم بتسريع عصر المعلومات، مما يساعد المستخدمين على أداء مجموعة واسعة من المهام، من تحديد الفرص الفريدة المتاحة في السوق، إلى اكتشاف علاجات جديدة للأمراض، إلى صياغة حلول إبداعية للمدن والشركات والمجتمعات.ويصادف العصر المعرفي المرحلة المقبلة في تطبيق العلوم على فهم الطبيعة ودعم الازدهار البشري، وتعود بدايته إلى أوائل عام 2011، عندما تغلب نظام الحوسبة الإدراكية واطسون على بطلين بشريين خلال عرض لعبة "خطر!". ومنذ ذلك الحين ذهب واطسون إلى فعل أكثر من ذلك بكثير، مبينا إلى أي مدى يمكن للحوسبة الإدراكية استخدام بيانات ضخمة لمعالجة بعض القضايا المنهجية الأكثر صعوبة التي تواجه البشرية.على نطاق واسع تقدم النظم المعرفية خمس قدرات أساسية: أولا، تساعد على مشاركة بشرية أعمق، وذلك باستخدام بيانات عن الفرد لخلق تفاعلات بشرية بعينها وبالكامل. ثانيا، تساهم النظم المعرفية في رفع الخبرات والتعلم من الخبراء في مختلف المجالات، وجعل تلك المعرفة متاحة على نطاق واسع. ثالثا، توافر النظم المعرفية للمنتجات، مثل تلك التي ترتبط بإنترنت الأشياء، مع القدرة على الإحساس بالعالم من حولها والتعلم من مستخدمي هذه النظم.رابعا، تسمح النظم المعرفية للمشغلين باستخدام كميات كبيرة من البيانات، مما يساعد في تقدم العمل وتوفير السياق، وتوفير التعلم المستمر، وتعزيز القدرة على التنبؤ، وتحسين الكفاءة والأداء. وأخيرا- وربما الأهم- تسمح لمستخدميها بالنظر إلى الأنماط والفرص التي سيكون من المستحيل اكتشافها من خلال الوسائل التقليدية.وتُعد النظم المعرفية من وحي الدماغ البشري، وهو الجهاز الذي لا يزال يعلمنا الكثير، وبما أن النظم تنمو حجما وتعقيدا، فيبدو أن هندسة الكمبيوتر التقليدية بدأت تُثبت محدوديتها، كما تؤدي النظم المعرفية إلى ارتفاع استهلاك الطاقة وتأخير التفاعل بين المكونات، وأصبحت معها هندسة الكمبيوتر التقليدية عبئا على نحو متزايد، وفي الواقع عندما يتعلق الأمر بكفاءة الطاقة– التي تقاس بعدد العمليات الحسابية في وحدة الطاقة على بيانات "غير منظمة"– فإن الدماغ البشري أفضل أداء بـ10.000 مرة من الأجهزة التي من صنع الإنسان.اليوم أجهزة الكمبيوتر تستهلك نحو 10٪ من إنتاج الكهرباء في العالم، وفقا لمارك ميلز، المدير التنفيذي لمجموعة الطاقة الرقمية، ومن أجل الاستفادة الكاملة من العصر المعرفي، سيكون علينا استخدام كميات هائلة من المعلومات؛ خلال السنوات الـ15 المقبلة، نتوقع أن ينمو حجم البيانات بنسبة أكثر من 1000 مرة، وإجراء الحسابات اللازمة لاستخدام هذه الكمية الكبيرة من البيانات لن يكون ممكنا من دون خطوات كبيرة في مجال تحسين كفاءة استخدام الطاقة.ومن شأن مطابقة أداء الدماغ البشري وكفاءته أن تتطلب منا تقليد بعض هياكله، وبدلا من محاولة الضغط على أداء كثافة الاستهلاك الطاقي من رقائق أضخم، يمكننا ترتيب مكونات الكمبيوتر في مصفوفة 3D كثيفة ومماثلة لدماغ الإنسان وليس تضخيم الأداء، بل الكفاءة الطاقية.ويضع ترتيب رقائق الكمبيوتر في بيئة 3D العناصر المختلفة للكمبيوتر في مكان أقرب إلى بعضها، وهذا لا يقلل من الوقت الذي تستغرقه عملية التواصل فقط؛ بل إنه يحسن كفاءة استخدام الطاقة بمعامل قدره 5000، موفرا لأجهزة الكمبيوتر كفاءة محتملة قريبة من الدماغ البيولوجي. بالفعل جهاز كمبيوتر أكثر كثافة ومبني على أساس التكنولوجيا المتنقلة المتاحة وتبريد الماء الساخن يسمح بكفاءة أعلى من النظام التقليدي بعشرة أضعاف. غير أن أجهزة الكمبيوتر من صنع الإنسان غير فعالة، وذلك ليس لأنها تحتاج لتشغيل الرقائق فقط، ولكن أيضا لأنها تحتاج إلى طاقة لتشغيل مكيفات الهواء التي تعمل على إزالة الحرارة الصادرة من المعالجات، والدماغ البشري لديه درس يعلمه لنا هنا. تماما كما يستخدم الدماغ السكر والدم لتوفير الطاقة والتبريد لمختلف مناطقها، يمكن لجهاز الكمبيوتر 3D استخدام المبرد السائل لتوفير الطاقة للرقائق، بالإضافة إلى تبديد الحرارة يمكن استخدام السوائل لتشغيل نظام كهروكيميائي لتوفير الطاقة، وهذا بدوره سيسمح بارتفاع كثافة التعبئة والتغليف، وبالتالي ارتفاع الكفاءة.من خلال اعتماد بعض خصائص الدماغ البشري، ستكون لأجهزة الكمبيوتر القدرة على أن تصبح أكثر إدماجا وكفاءة وقوة، وهذا، بدوره، سيساعدنا في الاستفادة الكاملة من الحوسبة الإدراكية، بمنح عقولنا مصادر جديدة للدعم والتحفيز والإلهام.* برونو ميشيل ، عالم في أبحاث "آي بي إم"- زيوريخ.«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
مستقبل الحوسبة
07-07-2016