جنة الأذكياء
اقتنعت أن الغبي سعيد ومن يسفه الجِدَّ يرتاح، وأن من يضحك بوجه الأزمة ويهون النكبة يصفو باله ويسكن فؤاده، مطمئنٌ قلبه، لمَ لا وهو لا يعي جسامة الخطر وشراسة عواقب الإهمال؟ تفكير مقلوب كهذا هو من إفرازات المجتمع المُحبط من احتمال الابتكار وخيال الإبداع، عقلية ملت صوت المنطق، وعكست المعنى الفطري بأن الذكاء هناء والعلم نور وبهجة، حتى احتفلنا بمقولة "طنش تعش!" ورددنا نصيحة "لا تفكر"، وتصورنا أن الشخصية المسكوبة للملذات لا همّ عليها ولا غمّ فيها، مما جعلنا نتوهم أن العلماء بشر أحاسيسهم بليدةٌ، لا يعرفون الضحك، ونظرنا إلى الحكيم على أنه خامل، حابس الحسرة، قابض على الجمرة، طارد المسرة، كل هذا لأننا ظننا أنه صاحب وعظ نكدي وأسلوب متشائم، إلى أن ظهر الآن مفهوم جديد قديم اسمه جنة الأذكياء... فما هو؟ أولاً من الذكي؟ وما جنته؟ يرى البعض أن الذكي هو من تفوق دراسيا فحسب، كذلك يظن آخرون ألا جنّة إلا بعد الموت، فكيف نؤمن بوجود جنة الأذكياء هذه بالدنيا؟ وكيف ندخلها، وما هي أساساً؟ وهل هي متسقة مع الإسلام؟ نحن بحاجة لضخ روح التعلم في قلوبنا، ونفض الغبار عن بعض المعاني المهمة التي نسيناها، ففي هذا المقال سنشرح معالم تلك الجنة.
لُغةً الجنة هي المكان الهانئ الذي استَجَنَ (تَخفى) بما يستره، فهي الحديقة التي أحيطت بالشجر، لا يُرى ما تحوي من زهر وورد وثمر، مثل ذلك جنة الأذكياء، الذين تحوي عقولهم معاني لا يتمتع بها إلا هم، بل دماغ العالم طبياً يتضحضح (ينغمس) بهرمونات السعادة، فالخلايا الدماغية المتكهربة بالتحليلات الذهنية تأمر الغدد بضخ تلك الهرمونات، مثل هرموني (الدوبامين- السيريتونين)، فمخ العالم يُرغد ببرك من هرمونات السعادة! كما يحيا روحانيا بمعان أسمى وأهنأ استجنت عن غيره، فكيف نقول إن مخه متبلد الحس؟! والمعنى الثاني لكلمة جنة، المكان الذي تُلبى به الرغبات فورياً، بخلاف جنة الآخرة، والذكي بالتكنولوجيا يطوي المسافات الزمنية، وعندما نقارن قسطرة عالمنا المسلم الجزري بالأندلس في البيمارستان، التي كانت هي أول عملية قسطرة قلب بالتاريخ، نراها أقل سرعةً وكفاءة من جراحة د. نهار العازمي الذي ابتكر طريقة لقسطرة القلب في القرن الحادي والعشرين، بمعنى أنه كلما ازداد الذكاء اقتربنا إلى فورية إنجاز رغباتنا، وقس على ذلك السيارة بالجمل، والطائرة بالقافلة، وحمام الزاجل بتويتر، والرحى بالميكروويف، وبيت الحكمة بغوغل. إذاً كيف نشطط بعد ذلك ونتصور أن الهناء في غير الذكاء؟ ثمة معنى أخير للجنة، وهو المأوى الذي نستجير به من المكروهات، حيث ينعم الحكيم بالانصراف عن الفحش، مبتعداً عن الخزي بهجر رفاق السوء ومواطن الفسوق، كذلك الحكيم يبقى ضميره بصفوة الطفولة، بشخصية رزينة، وإنسانية بريئة، وبدن شاب، وفؤاد زاهر كالأطفال، فكيف نقول بعدها: الحكيم كئيب؟ بل بسببهم- الحكماء والأذكياء والعلماء- صرنا نتواصل تكنولوجياً عبر القارات، نحلل تراب الكواكب، ندخل عوالم البكتيريا بالميكروسكوب، نسبح رياضياً بالمجرة تلو المجرة. تخلصنا بسببهم من ميراث خرافات أرهقت أجدادنا في علم النفس، عادلنا الضغط والسكر والكوليسترول في دمائنا بعلم الغذاء، قرأنا أرشيف سلالات الديناصورات بأشرطة الجينات الوراثية، التقطنا الصحة من تحت ناب الأفعى بعلم الصيدلة، وها نحن نحيا برفاهية الأجهزة الذكية، نرى الماضي بكاميراتها، نفتح مكتبات حضارات التاريخ بلمس شاشاتها. الحمد لله الذي أشهد العقلاء جلاله وجماله لما أراهم عالم بديعه سبحانه، وأعطانا المفتاح بقرآنه "أفلا يعقلون"؟