نتجوَّل اليوم في الحلقة الرابعة من «رحلات إلى الشرق» مع الباحث والمستشرق البريطاني، إدوارد لين في شوارع القاهرة منتصف العشرينيات من القرن التاسع عشر، أي قبل نحو مئتي عام إلا قليلاً من الآن، ويعتبر لين مؤسساً لنظرية الاستشراق التقليدية في الثقافة الغربية، لأنه من أوائل الذين اهتموا بالتراث وتاريخ المصريين من باحثي الغرب.

Ad

والحق أن إدوارد لين وأسرته، مثلوا أهم مدرسة استشراقية عن مصر تقريباً في بريطانيا، وربما في أوروبا كلها، خلال العصر الحديث، فقد كتبت شقيقته صوفيا بول كتاب {حريم محمد علي» وكتب أحد أحفاده «ستانلي لين بول»، عدداً من أهم الكتب عن مصر، منها «سيرة القاهرة» ومنها أيضاً «تاريخ مصر في العصور الوسطى».

يحتفظ الكاتب البريطاني إدوارد وليم لين، الذي تعلم في باث ومدارس هيرفورد الثانوية، لمصر بمحبة خاصة وملحوظة، في كثير جداً من كتاباته عن حياة المصريين، وهو واحد من المولعين بحب مصر، واستطاع أن يمد طرف هذه المحبة، إلى كل المحيطين به، من أخته إلى أقاربه وأحفاده، إلى حد أن واحداً من هؤلاء، كان في مصر، بعد ثورة 25 يناير 2011، وكتب عن مقاهي القاهرة، في أحد المواقع الإخبارية البريطانية الشهيرة.

والحق أن الرجل كان معنياً بالشأن المصري، منذ 1825 حين زار القاهرة أول مرة، وكتب مقالاته التي صدرت في كتاب «إنكليزي يتحدث عن مصر» ترجمة فاطمة محجوب، والصادر في الستينيات من القرن الماضي، والذي نحكي سطوره هنا في هذه الرحلات إلى الشرق، لكن كتابه الأهم هو «المصريون المحدثون عاداتهم وتقاليدهم» الذي صدر في عدة طبعات مصرية، من ترجمة طاهر نور، والذي يروي فصولاً من زيارته لمصر مرة أخرى 1836، في عهد محمد علي باشا، وهو الكتاب الأهم، في سرد حكايات المجتمع المصري وعاداته وتقاليده، خلال القرن التاسع عشر.

ولأنه مستشرق يعرف قيمة عمله، حرَّض أخته صوفيا، على كتابة مشاهداتها في بلاط الباشا حاكم مصر، فكتبت «حريم محمد علي باشا – رسائل من القاهرة (1842 – 1846)» والذي كان عنوانه الأصلي هو «المرأة الإنكليزية في مصر». 

الكاتب يبدأ ملاحظات لحياة المصريين من المنطقة التي يراها أكثر تعبيراً عن وجدانهم، وهي منطقة الاحتفالات التي تقام في القاهرة، حيث تتضح أبرز عادات «المصريين وأكثرها غرابة»، كما يقول، ومعظم هذه الاحتفالات تقام في مواسم معينة من السنة القمرية.

يقول :{تعد الأيام العشرة الأولى من شهر المحرم، خاصة اليوم العاشر، أياماً مباركة يمجدها المصريون، وتباع فيها «الميعة المباركة»، التي يستعملونها في السنة الجديدة، لدفع أذى العين، كلما دعا داع إليها، ومن عادة المصريين أنهم يدفعون صدقة في شهر المحرم، وفي الأيام العشرة الأولى واليوم العاشر منه على وجه الخصوص، وفي تلك الأيام تخرج كثير من النساء في مدينة القاهرة، حتى أولئك اللائي ينتمين إلى أُسر محترمة، كل واحدة تحمل طفلها على كتفها، أو تحمله لها امرأة أخرى، وتستوقف كل رجل حسن الهندام، وتسأله أو تدع الطفل يسأله صدقة، فتقول أو يقول: يا سيدي... زكا العشر... فيدفع الرجل لها خمسة فضة، والنقود التي تجمع بهذه الطريقة، يشترين بها حلوى وما إليها، ولكنها في العادة تحاك في طاقية الطفل، كتعويذة تقيه شر الحسد حتى يأتي العام التالي».

زكاة الجن

 

كالعادة، لا يستطيع الكاتب البريطاني، أن ينظر إلى المصريين، من دون أن يتأمل في عاداتهم ومعتقداتهم، الدينية وغير الدينية، وقد كان المصريون، في هذا الزمن قد خرجوا لتوهم من عصور السيطرة العثمانية، فقد نجح نابليون بونابرت، في غزو مصر، بين عامي 1798 و1801، وفي تغيير الكثير من عادات المجتمع المصري المحافظ، إلا أنه ظل يفكر بالطريقة نفسها التي ورثها من القرون الوسطى، حيث تؤمن النساء في مصر، وفي مدينة القاهرة بصفة خاصة، بخرافات عجيبة تتعلق بالأيام العشرة الأولى من شهر المحرم.

 يرصد الكاتب قناعات المصريات، في قدرات الجن والكائنات غير المنظورة بشكل عام، ويقول إن الجن كانت تزور بعض الناس، ويظهر أحد هؤلاء «الجن»، على هيئة سقا، ويسمى في هذه الحالة «سقا العشر»، مصطحباً معه بغلاً، يسمى «بغل العشر»، من أجل أن يترك الذهب للمواطنين الذين يختارهم الجن، وفي المعتقد أن الجن يدفع بهذه الطريقة زكاته.

يقول :{حين يجيء الجني في هيئة السقا، يطرق باب حجرة النوم، فيقول النائم: من هناك؟ فيجيب السقا قائلاً:

- أنا السقا... أفرغ فين؟

 فيدرك النائم أنه من الجن، إذ لا يأتي السقا بماء في الليل، ولذلك يرد:

- فرَّغ في الزير.

وحين يخرج الرجل إلى الزير، يجدها مليئة بالذهب، أما الجني الذي يتخذ شكل البغل، فيصفونه وصفاً عجيباً أخاذاً، فهو يحمل خرجين مليئين بالذهب، وعلى ظهره رأس رجل ميت، وحول عنقه خيط به أجراس صغيرة يهزها لدى باب حجرة نوم من يذهب إليه ليجعله ثرياً، فيخرج إليه ذلك المحظوظ، فيزيح رأس الرجل الميت ويفرغ الخرجين مما بهما من أشياء ثمينة، ثم يملأهما بالقش أو النخالة أو غيرهما، ويعيدهما ورأس الميت إلى موضعهما من البغل، ثم يقول له: اذهب يا مبارك. وهذه هي الطريقة التي يدفع بها الخيرون من الجن زكاتهم. وكم من امرأة جاهلة تبتهل إلى الله في الأيام العشرة الأولى من شهر المحرم، وهي تقول: يارب ابعت لي سقا العشر. أو تقول: ابعت لي بغل العشر... أما الرجال فيضحكون من تلك الخرافة». 

ويستمر في رصد معالم الخرافة المصرية، المرتبطة أصلاً بالعقلية المصرية الخارجة لتوها من عصور الظلام الطويلة التي عاشتها، في ظل حكم الدولة العثمانية، التي فرغت المجتمع المصري، من أبرز العقول والمواهب في الصنائع والحرف، بغية إمداد العاصمة العثمانية بالصناع المهرة، بينما كان يترك المصريون عرايا إلا من خرافاتهم.

يشير الكاتب إلى أن بعض الناس من أهل القاهرة، يعتقدون أن جماعة من الجن يظهرون على هيئة بشر، ويلبسون لباسهم، وأن هذه المجموعات اعتادت أن تقيم سوقاً في الأيام العشرة الأولى من شهر المحرم، في شارع يسمى «الصليبة»، في الجزء الجنوبي من العاصمة أمام «ناووس» قديم، كان يسمى «الحوض المرصود»، وكان هذا السوق يقام في منتصف الليل، وكان الناووس في فجوة، تقع تحت عدد من السلالم، تقود إلى باب مسجد مجاور للقصر القديم، الذي يُعرف بقلعة الكبش، وقد نقله الفرنسيون أثناء احتلالهم لمصر، وهو الآن في «المتحف البريطاني».

 يقول :{يقال إنه منذ نُقل الناووس لم يعد الجن يقيمون سوقهم، وقد قيل لي إن قليلاً من الناس هم الذين كانوا على علم بتلك العادة، وكل من مرّ، بطريق المصادفة، في الشارع الذي يقيمون فيه السوق فاشترى منهم شيئاً، سواء كان بلحاً أو فاكهة أخرى، أو كعكاً أو خبزاً، تحول ما اشتراه في الحال إلى ذهب».

 

«طلعة المحمل»

 

ولأن مصر تحولت في القرون الوسطى، إلى مجرد ولاية مهضومة الحقوق من ولايات الدولة العثمانية، مترامية الأطراف، فقد كان المؤلف حريصاً على ذكر العادات المصرية، التي كان منها الاحتفال بيوم العاشر من المحرم يسمى «يوم عاشورة»، ويقول إنه يوم يقدسه المسلمون لعدة أسباب، لأنه اليوم الذي التقى فيه آدم وحواء، بعد خروجهما من الجنة، واليوم الذي خرج فيه نوح من الفلك، ويقال أيضا إن أحداثاً عظيمة وقعت في ذلك اليوم، كما أن العرب قبل زمن النبي كانوا يصومونه، ويضيف المؤلف: «لكن الذي يضفي على ذلك اليوم تلك القداسة الكبيرة، هو في رأي معظم المسلمين المحدثين – خاصة أهل فارس – أنه اليوم الذي قتل فيه الحسين حفيد الرسول مستشهداً في موقعة سهل كربلاء، وكثيرون من المسلمين يصومون هذا اليوم، وبعضهم يصوم أيضاً اليوم الذي يسبقه». 

ومن الإيمان بالجن، إلى عادة الاحتفال بقافلة الحج العائدة من الأراضي الحجازية، حيث اعتمد المصريون طرقاً متشابهة في الاحتفال إلى اليوم حيث يدهن بيت الحاج، وتزخرف منازل الحجاج في الريف المصري إلى اليوم، ويكتب الرحالة إدوارد لين بول قصة العودة من الحج، وطرق الاحتفال بها منذ حوالي مئتي عام.

يقول إنه في أواخر شهر «صفر»، تصل إلى القاهرة قافلة الحجاج المصريين، عائدة من مكة، وتحمل اسم «نزلة الحج»، وقبل عودة القافلة بأربعة أو خمسة أيام، يصل «شاويش الحج»، الذي يسبق القافلة ومعه أعرابيان، يركب كل منهم هجيناً سريعاً ليعلنوا قدوم الحج، واليوم الذي يتوقع فيه وصوله، ولكي يسلموا الرسائل التي يحملونها من الحجاج إلى أصدقائهم، حيث يصيح شاويش الحج ورفيقاه فيمن يعترضون طريقهم من المارة قائلين: «الصلاة على النبي» أو يقولون: صل على النبي. وكل من يسمع قولهم هذا يقول: {اللهم صل عليه».

 يقول :{يتقدم ثلاثتهم نحو القلعة، ليبلغوا الباشا أو نائبه نبأ اقتراب قافلة الحج، ويقسم الشاويش ما يحمله من رسائل – فيما عدا ما يخص الكبراء والأثرياء منها – إلى حزم، يبيع كل حزمة بمقدار، يوزعونها على أصحابها ويأخذون منهم الهدايا، وقد لا يأخذون شيئاً فيخسرون الصفقة، أما الشاويش فيوزع على الكبراء والأثرياء رسائلهم، فيعطونه المنح السخية من مال أو شيلان أو غيرها، وكثير من الحجاج يأتون معهم بالهدايا من الأرض المقدسة، ومن هذه : الماء من بئر زمزم، وقطع من كسوة الكعبة، وتراب من قبر الرسول على شكل قرص صلب، كما يأتون باللبان والليف، وعود الند والسبح، والمساوك والكحل والشيلان، وغير ذلك مما يُصنع في الحجاز، وأشياء مختلفة مما يصنع في الهند».

يرصد الكاتب «طلعة المحمل» التي يعرفه المصريون منذ قرون طويلة، فقد كانت مصر هي التي تتكفل بكسوة الكعبة، وكان موكب الكسوة يخرج مع الحجاج المصريين، وكان أعيان مصر مسلمين ومسيحيين يسهمون بالمال في تجهيز الكسوة، التي كان يقوم على حياكتها مجموعة من أمهر صناع الخيامية.

 يقول الكاتب البريطاني: «في صباح اليوم التالي من عودة قافلة الحجاج، إلى العاصمة، تحتفل البلاد بعودة المحمل، ويسير موكب المحمل من الحصوة إلى القلعة، مخترقاً شوارع العاصمة، ويُحكى أن السلطان الظاهر بيبرس ملك مصر، هو أول من أرسل محملاً مع قافلة الحجاج إلى مكة، في سنة 670 هجرية، ولكن يقال إن تلك العادة ترجع في أصلها إلى بضع سنوات سبقت اعتلاءه العرش، فقد أدت «شجر الدر»، وهي جارية تركية اتخذها السلطان الصالح نجم الدين زوجة له وأصبحت أثيرة لديه، فريضةَ الحج في هودج عظيم يحمله جمل، وظل هودجها بعد ذلك يصحب قافلة الحجاج فارغاً بضع سنين تلت، حتى يكون للموكب صبغة رسمية، ثم تعاقب الأمراء على حكم مصر، وكان كل منهم يرسل مع قافلة الحجاج في كل عام هودجاً أطلق عليه اسم المحمل، كشعار للملكية». 

{الدوسة}

ويبدو أنه كان من الطبيعي، في هذا الوقت المبكر الذي زار فيه لين بول مصر، أن تلفت نظره كمية العادات الشعبية والدينية المرتبطة بالثقافة الإسلامية في مصر، نظراً إلى غرابتها على الذهن الغربي عموماً.

 يقول بول إنه في شهر ربيع الأول من كل عام، تبدأ البلاد الاستعداد للاحتفال بمولد النبي، ويقام الاحتفال عادة في الجزء الجنوبي الغربي من الفضاء الواسع المعروف بـ{بركة الأزبكية»، وهذا الفضاء تغمره مياه النيل في موسم الفيضان، فيتحول إلى بركة، وحينذاك يقام الاحتفال بمولد النبي على حافة البركة، ولكن البركة جافة هذا العام، ولذلك يقام الاحتفال فيها، وينصب الدراويش «صواوينهم» التي يقيمون فيها الأذكار كل ليلة، وهو يصف المولد كما رأه عام «1250 هجرية – 1834 ميلادية». 

يقول: «في أثناء النهار، يتجمّع الناس في مكان الاحتفال، يستمتعون بالاستماع للشعراء الذين يروون سيرة أبي زيد الهلالي، ويتفرجون على الحواة والبهلوانات والمهرجين، ولا تشترك الغوازي برقصهن في المولد، كما كان الحال من قبل، فقد أرغمن على التوبة والإقلاع عن ذلك، وتشاهد في الشوارع المجاورة بعض الأراجيح بأنواعها المختلفة، وعدد لا حصر له من الدكك التي تباع عليها الحلوى والأطعمة المختلفة، وكان الراقصون على الحبال من الغجر يعرضون ألعابهم في المولد، ولكنهم لا يشاهدون هذا العام، وفي الليل، تتلألأ أضواء المصابيح في هذه الشوارع، وتفتح الدكاكين التي تزخر بالأطعمة والحلوى أبوابها طوال الليل، وكذلك المقاهي التي يتسلى الناس فيها بالاستماع للشعراء والمحدثين، وبعد منتصف الليل تمر مواكب الدراويش، وهم لا يحملون الأعلام التي يحملونها أثناء النهار، وإنما يحملون سواري طويلة، تنتهي في أعلاها بعدد من المصابيح. وهذه هي «المناور».  ويسمي موكب الدراويش «الإشارة» سواء كانوا يحملون الأعلام نهاراً أو المناور ليلاً». 

ويروي الكاتب أنه في اليوم السابق لليلة المولد، ذهب إلى الأزبكية قبل الظهر بنحو ساعة، فلم يجد إلا قليلاً من الناس، ولم يكن هناك من وسائل التسلية سوى اثنين أو ثلاثة من الحواة والمهرجين والشعراء، تجمع حول كل منهم عدد من المتفرجين والمستمعين، ثم أخذ الزحام يشتد شيئاً فشيئاً، ذلك لأن الناس سيشهدون اليوم مشهداً عجيباً أخاذاً، وهو مشهد يجتذب إليه في مثل هذا اليوم من كل عام، جماهير غفيرة من كل حدب وصوب، ذلك المشهد هو ما يُعرف « بالدوسة». 

ويصف الكاتب ظاهرة "الدوسة" الصوفية المصرية من خلال علاقته ببعض المصريين ومنهم صديقه {السيد محمد المنزلاوي} ـ شيخ الدراويش السعدية، وخطيب مسجد الحسين ـ ففي الليلة السابقة لليلة المولد، يقول إن محمد المنزلاوي خلا إلى نفسه، يردد أدعية وابتهالات معينة وآيات من القرآن، وبعد أن انتهى من قراءاته، خرج من الخلوة وذهب إلى مسجد الحسين ليلقي الخطبة، ويؤم الناس في الصلاة، إذ اليوم يوم الجمعة، ويقول إدوارد لين: 

{حتى إذا قُضيت الصلاة، ذهب السيد المنزلاوي راكباً إلى منزل الشيخ البكري، الذي يرأس جميع طوائف الدراويش {الصوفية} في مصر، ويقع منزل الشيخ البكري في الجزء الجنوبي من بركة الأزبكية، وفي طريقه، كانت تنضم إليه طوائف عديدة من الدراويش السعدية، من أحياء متفرقة من العاصمة، وأهل كل حي يحملون علمين، والشيخ المنزلاوي رجل مسن، أشيب اللحية، لطيف المحيا، تلوح عليه مخايل الذكاء، كان يرتدي في ذلك اليوم {بنش} أبيض اللون، وفوق رأسه {قاوون} أبيض، تلتف حوله عمامة من موسلين زيتوني قاتم، يكاد يبدو أسود اللون. وفي الجزء الأمامي منها شريط من الشاش الأبيض، ربط ربطاً مائلاً، ويركب جواداً متوسط الارتفاع والوزن}.

والمشهد الذي لفت انتباه الكاتب هو إلقاء نحو 60 رجلاً من الرجال الكبار في السن والشباب على حد سواء أنفسهم على الأرض {دخل الشيخ بركة الأزبكية، يسبقه موكب هائل من الدراويش الذين ينتمون إلى طائفته، ثم توقف الموكب على مسافة قصيرة من بيت الشيخ البكري، وقد أخذوا يلقون أنفسهم على الأرض، الواحد إلى جانب الآخر متلاصقين، ظهورهم إلى أعلى، وأرجلهم ممددة، وأذرعهم منثنية تحت جباههم، وكلهم يردون بلا انقطاع كلمة الله}. 

ويقول إن نحو اثني عشر درويشاً أو أكثر، أخذوا وقد خلعوا نعالهم، يجرون فوق ظهور زملائهم المنبطحين على وجوههم، وبعضهم يضرب على الباز، وهم يصيحون قائلين: الله. ثم اقترب الشيخ، وتردد الجواد بضع دقائق،  وأحجم عن أن يطأ أول رجل منبطح أمامه، فأخذوا يدفعونه ويستحثونه من خلفه، حتى أطاع في النهاية، وأخذ في غير خوف ولا وجل يمشي فوق ظهورهم جميعاً مشية الرهوان، في خطوة قوية، يقوده رجلان كانا يجريان فوق المنبطحين من الرجال، ويدوس أحدهما فوق الأقدام، والآخر فوق الرؤوس، وانطلق المتفرجون في صيحة طويلة يقولون: الله.. لا لا لا لا لا لاه، ولم يصب أحد من المنبطحين بأذى.