استكشاف أسرار الإنتاجية
قد يكون لهجمات باريس التي وقعت 14 نوفمبر الماضي آثار ملموسة على الاقتصاد العالمي في الفترة المقبلة. وقد لعبت العوامل الجيوسياسية دوراً في القرار السابق لبنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي، بعدم رفع أسعار الفائدة قصيرة الأجل في سبتمبر. وثمة قلق من أن يلجأ كل من المستهلكين والشركات لخفض الإنفاق إلى أن تتحسن ثقتهم بشأن الاستقرار العالمي في المستقبل. وأخيراً، مع توسع نشاط تنظيم داعش ليشمل ضرب أهداف خارج منطقة الشرق الأوسط، قد يتم تنظيم حملة عسكرية كبيرة ومنسقة لإضعاف قوات التنظيم في الشرق الأوسط.في الماضي، لم تتبع الهجمات، التي شنها تنظيم القاعدة على مركز التجارة العالمي في نيويورك، وغيرها من المواقع عام 2001، أي حوادث أخرى مشابهة رغم التخوّف الكبير حينئذ من وقوع المزيد من الهجمات، وربما يرجع ذلك إلى فعالية الاحتياطات الأمنية المشددة المتخذة. ومع أن سوق الأسهم الأميركية انخفض بشكل حاد كرد فعل على تلك الهجمات، فقد استعادت المؤشرات ما فقدته بعد نحو شهر، في ضوء تعافي اقتصادات العالم من الركود في ذلك الوقت. أما الآن فقد ارتفعت الأسواق يوم الاثنين بعد هجمات باريس، رغم أن اقتصادات الدول المتقدمة الكبرى تظهر بعض علامات الضعف في الآونة الأخيرة.
وقبل أحداث باريس المؤسفة، شهدنا بعض الأخبار الجيدة عن اقتصاد الولايات المتحدة، فقد كانت بيانات الوظائف قوية في أكتوبر مع استحداث 271 ألف وظيفة في القطاعات غير الزراعية، حيث احتل قطاع البناء والإنشاءات موقع الصدارة في عدد الوظائف الجديدة بين تلك القطاعات. ورفع بنك الاحتياطي الفدرالي أسعار الفائدة قصيرة الأجل هذا الشهر، كما ارتفع متوسط الأجور الساعية بنسبة 2.5 في المئة مقارنة بالعام الماضي، ووصف العديد من المراقبين التحسن في الأجور بأنه "يتسارع". لكن نائب رئيس بنك الاحتياطي الفدرالي ستانلي فيشر قال إنه في حال عدم نمو الإنتاجية، "فلن تكون هناك قوة حقيقية في الاقتصاد تدفع الأجور للارتفاع". لذلك فإن الأجور ربما لن تتصاعد بشكل متسارع. وقبل أن نمضي مع فكرة انتهاء الركود الطويل في نمو الأجور وأن المستهلكين سيكون لديهم المزيد من المال المتاح للإنفاق بما يدعم النمو الاقتصادي في عام 2016، أعتقد أنه من المفيد النظر في العوامل المعقدة المؤثرة في هذه الدورة الاقتصادية.وحدد بنك غولدمان ساكس ثلاثة عوامل تؤثر على مقياس "تتبع الأجور" الخاص بالبنك: أولها الركود في سوق العمل، الذي أدى إلى تراجع معدل النمو بمقدار 0.6 نقطة مئوية وفقا لتقديراتهم، والثاني ضعف نمو الإنتاجية، والذي قلل نمو الأجور بنحو 0.3 نقطة مئوية، والثالث انخفاض معدلات التضخم، الأمر الذي قلل نمو الأجور أيضا بمقدار 0.2 نقطة مئوية أيضا. واستنادا إلى بيانات البنك، فإن تعديل هذه العوامل مجتمعة من شأنه أن يؤدي لنمو الأجور بنسبة 3.2 في المئة، أي أعلى بنحو 1.1 نقطة مئوية من المستوى الحالي. وفي المقابل، أظهرت دورات الأعمال الأخيرة نمو الأجور بنسبة تتراوح بين 3.5 و4 في المئة، فما الذي يعوق نمو الأجور؟من الواضح أن تباطؤ النمو الاقتصادي هو أحد الأسباب، وأنا أتفق مع تقديرات غولدمان التي تقول إن معدل النمو الاقتصادي أقل بنقطة مئوية كاملة مما هو ممكن، وان ذلك مسؤول عن نحو نصف العجز في مكاسب الأجور. ففي الخمسينيات من القرن الماضي، لم يكن مستغربا أن تنمو الإنتاجية بمعدل يتجاوز 4 في المئة. وكان ذلك المعدل بحدود 3 في المئة أكثر من مرة في الستينيات، واستمر نمو الإنتاجية بنحو 3 في المئة إلى 4 في المئة سنويا بين عامي 2000 و2005، لكن البيانات الأخيرة تشير إلى معدل لا يتجاوز 1 في المئة. وقد اتسمت دورات الانتعاش الاقتصادي في الفترات السابقة بوجود قوى تعزز الإنتاجية. ووفقا لوكالة ستراتيجاس للأبحاث، فقد كان "عقد النزعة الفردية" وبطاقات الائتمان من محفزات النمو في الثمانينيات، بينما كان الحاسوب العامل الأبرز في التسعينيات. ولعل مشكلة الفترة الحالية هي أن الإسكان الذي كانت فقاعته السبب الرئيسي للأزمة الاقتصادية العالمية عامي 2008 و2009 يلعب دورا مهما في الانتعاش الحالي، لكنه لا يحسن الإنتاجية، بل يحسن فقط مستوى المعيشة.واستشرافاً للمستقبل، فقد درست مجموعة متباينة من الآراء بشأن الإنتاجية. ومنها رؤية متشائمة تبناها فرانك فينيروسو، الخبير الاقتصادي الذي تابعت أعماله مدة عشرين عاماً. يبدأ فينيروسو بالقول إن نمو الإنتاجية في هذه الدورة كان في غاية السوء، حيث كان يتراوح في المتوسط حول مستوى 0.5 في المئة فقط خلال السنوات الخمس الماضية. وهو لا يرى سببا تاريخيا أو نظريا لتغيّر ذلك المعدل، بينما يعتبره توسعا اقتصاديا ناضجا. ففي ثماني دورات من أصل عشرة منذ عام 1950 حدثت قفزة في إنتاجية القوى العاملة في بداية التوسع وتراجع في نهايته. وكان أحد الاستثناءات ما حدث في التسعينيات، عندما تسبب الاستثمار الرأسمالي في المعدات والتجهيزات التقنية في زيادة الإنتاجية في وقت متأخر من الدورة الاقتصادية. لكن هذا لا يحدث في الوقت الحاضر. ويبرر العديد من المراقبين البيانات التي تشير إلى انخفاض الإنتاجية حاليا بأن الاقتصاد يواجه "رياحا معاكسة" تشمل ما يلي: (أ) ضعف ثقة الأعمال في الطلب المستقبلي؛ (ب) تراجع ريادة الأعمال ما خلا مجالات تقنية معينة؛ (ج) عدم وجود رغبة لدى المؤسسات المالية في إقراض المشاريع الناشئة. ومن غير المرجح أن تتغير هذه الظروف قريبا.ووفقا لما يقوله فينيروسو، فقد تكون التقييمات في قطاع التقنية وصلت إلى مستويات مفرطة، وخصوصا بالنسبة للشركات التي لم تطرح أسهمها للتداول بعد. ولجأت الشركات لاستخدام الديون كوسيلة لزيادة ربحية السهم، حيث نرى أن الاقتراض يتوسع بمعدل يقارب ضعف معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي، ما يضع ديون الشركات عند أعلى مستوياتها على الإطلاق. كما تقترب عمليات الاندماج والاستحواذ وإعادة شراء الأسهم وقروض الاستدانة من الذروة التي بلغتها عام 2007. وتشير هذه البيانات إلى أن الرياح المعاكسة لا تعوق نشاط ريادة الأعمال والابتكار، وبالتالي فليس هناك سبب يرجح حدوث زيادة كبيرة في الإنتاجية. في المقابل، نجد الأستاذ في جامعة نورث وسترن جويل موكير على الجانب الآخر: "لقد كان الابتكار في المنتجات سمة بارزة في السنوات العشرين الماضية، وإذا كان ذلك صحيحا فإن إحصاءات الإنتاجية تعاني ضعفا منهجيا في قياس وتيرة التقدم التقني". ويركز موكير على التفريق بين الابتكار في المنتجات والابتكار في العمليات، حيث إن القدرة على إنتاج السلع ذاتها بمتطلبات أقل من العمالة ورأس المال تؤدي إلى تحسين الإنتاجية، وهذا هو الابتكار في العمليات. أما الابتكار في المنتجات فهو أصعب قياسا، ويمكن أن يفضي إلى تحسين مستويات الحياة دون أن يظهر في إحصاءات الإنتاجية، ومثال ذلك المضادات الحيوية وأدوية التخدير، أو السيارات التي تدوم لفترة أطول وتتطلب إصلاحات أقل. ويرى موكير فرصة عظيمة في مجال الطباعة ثلاثية الأبعاد. وخلافاً لمن يعتقدون بأن انخفاض الإنتاجية ناجم عن "رياح معاكسة"، يرى موكير أن الرياح في الحقيقة مواتية.إذا كانت أرقام انخفاض الإنتاجية حقيقية وليست ناجمة عن خطأ في القياس، فهذا أمر خطير. وإذا لم تتحسن الإنتاجية فستكون الآثار المترتبة على التوقعات الاقتصادية المستقبلية مثيرة للقلق، إذ أظهر تقرير الإنتاجية للربع الثالث من عام 2015 زيادة إنتاج الموظف في الساعة بمعدل سنوي 1.6 في المئة، أي أعلى بكثير من تقديرات معظم المحللين الاقتصاديين. أما الإنتاجية عموماً فقد نمت بمعدل 0.4 في المئة فقط في الربع الثالث من عام 2014، بعدما كانت تنمو بمعدل سنوي متوسطه 2.1 في المئة بين عامي 2000 و2013 بما في ذلك فترة الركود عامي 2008 و2009.ومن العوامل الرئيسية المساهمة في تحسن الإنتاجية في الربع الثالث انخفاض عدد ساعات العمل التي تراجعت بأكبر معدل لها في ست سنوات، نتيجة انخفاض قدره 18 في المئة في عدد الأشخاص الذين يعملون لحساب أنفسهم ولا تشملهم الاستبيانات. وقد رأينا الكثير من الاهتمام بمدى أهمية "اقتصاد المهام"، حيث يحصل الناس على أجور لقاء أداء مهام معينة دون الالتزام بوظيفة رسمية. حيث نجد كثيرا من الشباب يفضلون الحرية والاستقلالية التي يمنحها هذا النمط من العمل، وهم مستعدون للتخلي عن هيكلية الوظائف التقليدية وفوائدها للانخراط في عملٍ يتوافق مع نمط الحياة المفضل لديهم. ومن الصعب تقييم الأثر بعيد المدى لهذه الظاهرة على بيانات الإنتاجية.ويدرك سوق الأسهم جيدا فوائد تحقيق الأرباح بعدد أقل من الموظفين الدائمين. لذلك فإننا نجد أن بعض أفضل الأسهم أداء هي لشركات تمتاز بنسبة عالية جداً لقيمة الشركة إلى عدد الموظفين. وفقا لوكالة ستراتيجاس للأبحاث، تشمل الأمثلة على ذلك شركة فيسبوك التي تبلغ قيمتها نحو 285 مليار دولار ولديها 9200 موظف، أي بنسبة تبلغ 31 لقيمة الشركة إلى عدد الموظفين؛ وشركة فيزا التي تبلغ قيمتها 185 مليارا، ولديها 9500 موظف (أي بنسبة 20)؛ وشركة نتفليكس التي تبلغ قيمتها 46 مليار دولار ولديها 2450 موظفا (أي بنسبة 19). وربما يكون ذلك دلالة على انتقالنا من اقتصاد التصنيع الذي كانت فيه العمالة مرتكز الإنتاج إلى اقتصاد قائم على المعرفة يلعب فيه الحاسوب دورا أساسيا.وربما يكون لهذا التغيير نتيجتان أساسيتان، أولاهما إمكانية إنشاء شركة من قبل رائد أعمال تصل إلى قيمة عالية جدا في فترة قصيرة نسبيا؛ والنتيجة الثانية هي أن عددا من أبرز الشركات الواعدة هي تلك التي تؤدي عملها بعدد قليل نسبيا من الموظفين. وفي بعض الحالات، تستطيع تلك الشركات تقديم نتاج يستبدل ما ينتجه المنافسون الذين يوظفون عددا كبيرا من الأشخاص. ويمكن المقارنة مثلا بين الشركات المذكورة أعلاه مع شركات تعتمد على عمالة كبيرة مثل شركة جاب التي تبلغ قيمتها نحو 11 مليار دولار ولديها 141 ألف موظف، أي بنسبة 0.08 فقط.بناء على ما تقدم، فإن تقييم أثر التقنية على الإنتاجية قد يكون صعبا. وليس هناك شك في أن الهاتف النقال والحاسوب ساهما في تحسين الإنتاجية، حيث يمكن للكثيرين منا العمل بفعالية بعيدا عن المكتب وفي أي مكان، ونجد في بعض الشركات المبتكرة الجديدة مثل أوبر وAirbnb خصائص إنتاجية قد لا تظهر بدقة في الإحصاءات التقليدية.لكن ما نعرفه جيدا هو أن التقدم التقني أدى إلى إلغاء آلاف فرص العمل في الصناعات التحويلية والخدمات. وساهم ذلك في تحسين أرقام الإنتاجية الفردية على مدى السنوات الخمسين الماضية، ورفع هوامش الربح إلى مستويات قياسية، ما أتاح لأسواق الأسهم التعافي لكنه عزز الشعور بعدم المساواة. وبما ربحية الشركات ومستوى المعيشة مرتبطا بالإنتاجية، فإذا كان قياس الإنتاجية يتم بصورة صحيحة، وتشهد بالفعل تباطؤا حقيقيا، فسيكون لذلك تأثير عميق على النظرة المستقبلية للاقتصاد والأسواق المالية.* بايرون واين ، نائب رئيس شركة بلاك ستون