لطالما كان شهر رمضان الكريم شهراً مميزاً على الصعيد الإعلامي في مصر؛ ففي هذا الشهر بالذات كانت الشاشات والإذاعات المصرية تحفل بالكثير من المنتجات الدرامية والبرامجية، التي حفرت ذكريات جميلة في وجدان قطاعات كبيرة من الجمهور العربي.

Ad

فإلى جانب المحتوى الخفيف أو الترفيهي، كانت هناك وجبات دسمة من دراما وفنون أكثر رقياً من الموجود راهناً.

لكن رمضان هذا العام جاء من دون علامات فنية مضيئة حتى الآن، رغم الكم الهائل من البرامج والمسلسلات، التي تم توفير موارد ضخمة لإنتاجها، ورغم العدد الكبير للفضائيات والإذاعات وبيوت الإنتاج.

ليست هذه كل مشاكل الإعلام المصري، لكن هناك ما هو أفدح أثراً مثل سيادة نمط الترفيه الهزلي، وشيوع قدر من البذاءة في التناول، وغلبة برامج "المقالب"، وافتقاد العمق، وغياب الأعمال الهادفة والممتعة.

لا يمكن تحليل حالة الإعلام المصري في السنوات الأخيرة بمعزل عن السياق السياسي والاجتماعي، الذي تبرز فيه بوضوح قضية الإرهاب.

 تتأثر المنظومات الإعلامية في أكثر الدول رشداً وتنظيماً بالاستهدافات الإرهابية، وتميل الممارسة الإعلامية في مثل تلك الظروف إلى منحى دعائي وسياسي أكثر من التزامها بالمعايير المهنية.

تعرضت مصر منذ ثورة 25 يناير لاستهداف إعلامي مركز ونافذ، عبر وسائط إعلامية وافدة متعددة، اتخذت نقاط ارتكاز حيوية في الواقع المحلي، من خلال تكريسها موارد ضخمة واعتمادها أنماط أداء فعالة. وسخّرت بعض تلك الوسائل نفسها للإضرار بالأوضاع الداخلية، والتحريض على العنف، وإثارة الكراهية، مما خلق وضعاً يصعب معه صيانة معايير التعدد والتنوع، ويسهل خلاله اتخاذ الإجراءات الخشنة بحق حرية الإعلام.

وفي غضون ذلك، تضرب أزمة مالية كبيرة صناعة الإعلام، وتنعكس آثارها في غلق عدد من القنوات لأسباب مالية، بينما توقفت بعض القنوات والصحف عن دفع الرواتب في المواعيد المقررة، كما توقفت برامج كثيرة بسبب ضعف التمويل.

وللأسف الشديد، فحتى الآن لم تنجح الجماعة الصحفية والإعلامية في الانتهاء من إعداد مشروعات قوانين تنظيم الإعلام المكملة للدستور، كما أحجم الرئيس الذي يمتلك سلطة التشريع في غيبة البرلمان، عن إصدار قانون إنشاء نقابة للإعلاميين، وهي الجهة الوحيدة المنوط بها إصدار ميثاق شرف إعلامي، يمكن من خلاله الحد من انفلاتات الأداء.

وبسبب تلك الأزمات المتراكمة، فقد اختفى تقريباً التعدد والتباين في منظومة الإعلام على صعيدي الملكية والسياسة التحريرية لمصلحة الصوت الواحد، الذي تعتقد السلطات أنه "وطني ومسؤول"، في مقابل الأصوات الأخرى التي تتهمها بـ "الخيانة" أو "العمالة" أو "عدم المسؤولية".

وزاد الدور الدعائي لوسائل الإعلام العامة والخاصة على حساب الدور المهني، بما يمكنها من "مواجهة الخطر الإرهابي"، وتكريس سياسة "الاصطفاف"، التي تجد ذرائع موضوعية في ظل الاستهداف الخارجي والداخلي، وتزايد العمليات الإرهابية، وثقة القطاعات الغالبة في الرأي العام بالقيادة، ورغبتها في مساندتها لاستعادة الدولة وتثبيتها، كما تظهر أغلب استطلاعات الرأي المعتبرة.

وقد صاحب ذلك خروج بعض المال السياسي، الذي كان قد تدفق من خارج البلاد على الصناعة، من أجل تحقيق أهداف إقليمية التقت مع إرادة القطاعات الغالبة من الجمهور المصري ومعظم المؤسسات الوطنية، بعدما شعر أصحاب تلك الأموال أنهم حققوا أهدافهم أو القدر الأكبر منها.

وتقلصت في الوقت نفسه عائدات الإعلان، وتركز معظم الوكالات الإعلانية في عدد لا يزيد على أصابع اليد الواحدة من الشركات، التي استهدفت تعزيز أنماط أداء حادة بعينها، إما من أجل تحقيق الرواج، أو لمصلحة تعزيز فكرة "الاصطفاف"، التي بدت أكبر من أن تقاوم سياسياً.

وبسبب تفاقم الضغوط السياسية والمعيشية على قطاعات واسعة من الجمهور، خلال سنوات أربع مرهقة تلت ثورة يناير، وفي ظل تردي الأداء الإعلامي وتدنيه، انصرفت قطاعات مؤثرة عن متابعة المحتوى السياسي المقدم عبر وسائط الإعلام التقليدية لمصلحة وسائط الإعلام الاجتماعي أو المحتوى الترفيهي.

وبموازاة ذلك، زادت حدة الممارسات غير القانونية وغير الأخلاقية في المحتوى الإعلامي، إما لجذب الجمهور عبر اختيار قضايا مثيرة مثل "الشذوذ"، و"التجديف"، و"المشاحنات والشتائم"، و"الإباحية"، و"التسريبات غير القانونية التي تنتهك الخصوصية"، وإما لتحقيق أهداف سياسية، يراها البعض مبررة لمقاومة "مؤامرة خارجية وداخلية على البلاد"، ويراها البعض الآخر محاولة لـ "إعادة إنتاج دولة مبارك"، و"القضاء على مكتسبات ثورتي يناير ويونيو".

ورغم اتساع الصناعة محلياً، وامتلاكها تاريخاً معتبراً في التأثير الإقليمي، فقد أخفقت تماماً في إيجاد تعبير إعلامي يستهدف الإقليم والعالم، وبالتالي فقد ظلت مصر على مدى سنوات طويلة بلا صوت يعبر عن مواقفها يمكن أن يجد آذاناً صاغية ومقدرة خارجها.

ثمة أخبار جيدة تتعلق بزيادة كبيرة في نسب استخدام المصريين لشبكة "الإنترنت"، خصوصاً في أوساط الشباب، وتعاظم دور وسائط التواصل الاجتماعي، وتحولها إلى مصدر رئيس لاعتماد قطاعات كبيرة من الجمهور، بما يعنيه هذا من زيادة فعالية التواصل والمشاركة.

لكن على الجانب الآخر، فإن هذا الاتساع في دور وسائط التواصل الاجتماعي وتأثيرها أتاح الفرص لأنماط أداء إخباري وتحليلي تفتقد أي قدر من الدقة والالتزام المهني إلا ما يرتضيه المستخدمون لأنفسهم.

ورغم الدعاوى المتكررة لإصلاح وسائل الإعلام المملوكة للدولة، والتي تمثل ترسانة كبيرة مرهقة بالعمالة الزائدة والديون، وفاقدة للاعتبار والتأثير الكافيين، فقد استمر الإخفاق في إعادة هيكلة تلك الوسائل، وتفاقمت خسائرها وديونها، وتدني أداؤها المهني والإداري.

وعند مقارنة أوضاع الإعلام المصري الراهنة بما كان عليه في أيام الازدهار والتأثير، سيكون الفارق هائلاً، لكن الأشكال يبدو أكبر من ذلك، إذ يتخذ هذا الإعلام اتجاهاً هبوطياً باطراد، رغم التطلعات لخلق حالة إعلامية أفضل في أعقاب "ثورتين" تفجرتا في البلاد.

لقد أصبح الإعلام المصري في وضع بائس، رغم امتلاكه تاريخاً مشرقاً وعظيماً، ورغم انطوائه على موارد وخبرات مهنية رفيعة وبارزة، لم تجد طريقها بعد لإعادة إعلامها إلى ما كان عليه من ألق وتميز.

* كاتب مصري