كثيراً ما مارس المجتمع الدولي، وبصفة خاصة أوروبا وأميركا، التضليل والخداع في القضايا التي تتعلق بمنطقتنا، ولكن مستوى الخداع والتضليل الذي يمارس في المأساة الإنسانية السورية فاق كل الحدود حتى طفح جسد الطفل السوري أيان الكردي وشقيقه وأمه على الساحل التركي بصورهم التي هزت الضمير الإنساني، ورغم أن صور مآسي الشعب السوري منذ ربيع 2011 تدمي العيون والقلوب مما يفعله نظام بشار الأسد وأعوانه من ميليشيات حزب الله اللبناني والمرتزقة من العراق حتى أفغانستان، فإن العالم وخاصة الإعلام الغربي يتجاهلها.

Ad

الصور المروعة والأنباء المفجعة عما يحدث للأطفال والنساء والعجائز في حمص والغوطة وريف دمشق والقصير وحماة كانت تملأ الكون منذ 2011، وكذلك قوافل اللاجئين التي تتدفق على تركيا ولبنان والأردن كان كل ذلك لا يهم وسائل الإعلام الأوروبية، ولا يأخذ سوى ثوان محدودة من نشرات الأخبار، بينما كانت اللجان البرلمانية الأوروبية لا تبالي بما يقدم لها من الناشطين الحقوقيين السوريين من جرائم حرب يقوم بها نظام بشار الأسد وأعوانه من أدلة ومواد فيلمية وشهادات موثقة وذلك قبل تنشئة "داعش" بسنوات.

ورغم النداءات المتكررة من تركيا التي تحملت أعباء مليوني لاجئ سوري للمجتمع العالمي وأوروبا لوضع مناطق آمنة للسوريين داخل بلدهم يمنع فيها الطيران فقد تجاهل الجميع تلك النداءات، وركن الأوروبيون إلى المطبخ الأميركي –الإسرائيلي- البريطاني الذي يتعامل مع القضية السورية ويفضل أن يستمر نظام الأسد في قتل وتهجير شعبه ونشوء فوضى لجلب كل القوى الجهادية السنية إلى سورية لقتالها وتصفيتها، وتفتيت سورية وتجزئتها إلى دول طائفية وعرقية ضعيفة لا تهدد أمن اسرائيل ولا تطالبها بالأراضي التي احتلتها.

بل إن معظم اللاجئين الذين يتدفقون على أوروبا اليوم هم من مناطق خارج سيطرة "داعش"، فمعظمهم من حمص ومخيم اليرموك في دمشق الذي شهد جرائم حرب مروعة ومجاعات، وريف دمشق والغوطة، ومن منطقة كوباني المحررة من "داعش"، وهي تحت سيطرة قوى كردية قريبة من نظام الأسد وإيران وتمارس عملية تطهير عرقي تمهيداً للتقسيم المرتقب لسورية إلى دويلات علوية وسنية وكردية ودرزية برضا وتشجيع خفي أوروبي أميركي.

وزعماء أوروبا اليوم يخدعون شعوبهم وضمائرهم حينما يكررون أن عدم حل أزمة اللاجئين السوريين سببه "داعش"، وهي مغالطة خطيرة. نعم "داعش" سبب مهم ولكنه ليس السبب الرئيسي، فالسبب الرئيسي هو ترك نظام متوحش يقصف شعبه بالبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية أربع سنوات متتالية دون تحرك دولي، ولا يجوز هنا التحجج بالفيتو الروسي لأن المجتمع الدولي تحرك في أكثر من أزمة دولية رغم المعارضة الروسية ومن أهمها ما حدث من قبل في دول البلقان في البوسنة والهرسك وكوسوفو.

أوروبا اليوم وعلى مدى سنوات مقبلة ستدفع ثمن تهاونها مع مأساة سورية التي أصبحت تمثل قضية هوية وأمن قومي لها، وربما ستنفجر أزمة لاجئين بالملايين على حدودها يحملون معاناتهم وصدماتهم النفسية مما شهدوا من جرائم بحقهم وقف العالم يتفرج عليها بل ويشجعها أحياناً عبر التفاوض مع بشار الأسد، وما قد يشكله هذا الألم من مشاكل أمنية يحملها اللاجئون وأجيالهم المقبلة، وعلى أوروبا أن تعترف بالحقائق بأنه لولا وحشية نظام الأسد والفوضى المتعمدة وإطلاق المالكي في العراق لأكثر من 800 مسجون من عتاة المتطرفين من الأصوليين لما نشأ تنظيم "داعش" الإرهابي الذي يركز عليه الغرب لغايات معروفة تتعلق بالرغبة المفرطة بالتركيز على سلبيات الدين الإسلامي وتجاهله للأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة للأسد، لذا فإن إعلانات الأوروبيين عن قصف "داعش" هي إجراءات دعائية لا تتعامل مع أصل المشكلة ولن تحل أزمة اللاجئين السوريين المتفاقمة.

***

حسناً فعلت أنقرة عندما تركت اللاجئين السوريين يتحركون على أراضيها ويعبرون إلى أوروبا بعد أن تحملت احتياجات مليونين منهم سنوات طويلة، بينما صم العالم وأوروبا تحديداً آذانهم عن مناشداتها بالتعامل مع المأساة السورية وخصوصاً مع جرائم النظام السوري، فأوروبا تضع عقوبات على روسيا بسبب أوكرانيا بينما تتجاهل الملف السوري الذي يمثل قضية أمن قومي  أوروبية وإنسانية أشد جدية ووطأة على أوروبا!