من شاهد، مثلي، النجم الكبير عزت العلايلي، مذ أن تم إخطاره بأنه سيكون واحداً من أربعة عمالقة تمثيل في العالم تقرر منحهم جائزة «تكريم إنجازات الفنانين» في افتتاح الدورة الثانية عشرة لمهرجان دبي السينمائي الدولي (9 – 16 ديسمبر 2015)، لا بد من أنه لاحظ التغيير الكبير الذي اجتاحه، والفرحة التي ارتسمت على وجهه، وصوته، فقد بدا لمن يعرفه وكأنه عاد عشرات السنين إلى الوراء، واستعاد عافيته، وقهر معاناته مع أي ظرف صحي طارئ.

Ad

تحدث معي هاتفياً، بعد ساعات من إعلان التكريم، وكان قلبه ينبض بالسعادة، ولسانه يلهج بذكر الله، الذي أنعم عليه بكل شيء، وصار واجباً عليه أن يحمده، وأعرب لي عن امتنانه لإدارة مهرجان دبي السينمائي الدولي، التي تذكرته، ومنحته الجائزة المرموقة، التي لم يحصل عليها سوى كبار النجوم في مجالات السينما المختلفة، خصوصاً الإخراج والتمثيل.

في المكالمة الهاتفية نفسها أكد لي الفنان القدير أن ابنه {محمود} طبيب الأسنان المعروف، والكادر الحزبي المشهور، حيث يشغل منصب أمين اللجان النوعية بحزب المصريين الأحرار، سيرافقه في رحلة السفر بالطائرة إلى {دبي}، وأنه لن يفارقه طوال أيام إقامته هناك، وهو ما حدث بالفعل، فقد كان {الابن البار} سابقاً لأبيه في كل خطواته، وفي اللحظة التي يلتف فيها المعجبون حول {النجم المتوج} ينسحب بهدوء إلى المقاعد الخلفية، رافضاً محاولات والده لإقناعه بأن يُشاركه الظهور، والتقاط الصور الفوتوغرافية، وهو ما رأيته بنفسي في قاعة كبار الزوار بمطار دبي الدولي، عندما هرول كل من في القاعة لتحيته، واستئذانه في التقاط صورة معه تُخلد لحظة اللقاء، وإذا بالنجل يتوارى ويختفي من {الكادر}، وتضيع نداءات الأب في أن يثنيه عن قرار الانسحاب!

مرة أخرى كنت شاهداً على لحظة إنسانية رائعة، إذ جاءت جلستي في حفل الافتتاح بجانب {محمود العلايلي}، ورأيت بعيني لهفته على والده، الذي اقتضت المراسم أن يكون بعيداً عنه، وأن يجلس مع المكرمين: النجمة الفرنسية الشهيرة كاثرين دينوف والممثل الهندي المعروف نصر الدين شاه بعد ما غاب الممثل الفرنسي التونسي الأصل سامي بو عجيلة، ولم تتوقف الاتصالات الهاتفية للابن للاطمئنان على الأب، وإبلاغه أنه بجواره، وفي انتظار إشارة منه ليهب فوراً إلى خدمته، ولأن {العلايلي} - الأب - كان في الصف القريب منا، استشعرت كم كان محقاً في إصراره على اصطحاب {محمود}، فقد كان مطمئناً إلى أنه  في رعاية عين تحرسه، وتود لو أغلقت عليه رموشها، وقلب يخشى عليه من نسمة الهواء الطاير، كما نقول في حكايات العشق الخالد في تراثنا. وفي المقابل، لم يكن {محمود} يكتفي بالتصفيق في كل مرة ينوه عبد الحميد جمعة رئيس مهرجان دبي السينمائي إلى اسم {عزت العلايلي} بل كان يرفع يديه إلى أعلى، وهو يصفق بحماسة، وزهو، كبيرين، وكأني به يقول للجميع: {هذا أبي ومثار فخري واعتزازي}.

تأملت ما جرى، وأيقنت أن تكريم الفنان في حياته، وليس بعد رحيله عن دنيانا، بمثابة {واجب وطني} وفي ماعدا هذا {خطيئة لا تُغتفر}، فمن الممكن أن يقرأ الأبناء المقالات التي تُشيد بموهبة الأب، عقب رحيله، وتُعدد مآثره طوال مسيرته، كدماثة خلقه، وقوة شخصيته، وقدرته الفائقة على اتقان العمل، وانتقاء أدواره، وكراهيته للأضواء والشهرة الزائفة، وانسحابه الدائم بعيداً عن {جلسات النميمة}، لكن لا يمكن مقارنة هذا بمشاعر الفنان، وهو يعيش لحظة التكريم بنفسه، ويُدرك أن ابنه في القاعة، يشاهد بأم عينيه، وقائع تكريم الأب الذي أفنى حياته في مهنة أحبها، وظلّ عطاؤه ممتداً من دون حدود، وها هو يستحق أن يمنحه الجميع {جائزة تكريم إنجازات الفنانين}.

شعور لا يوصف، ودقائق ستظل منقوشة في الذاكرة، وحلم قد يراه البعض من الفنانين المخضرمين بعيد المنال، لكن ما عشته، وعايشته، في الدورة الثانية عشرة لمهرجان دبي السينمائي، واقترابي من تجربة تكريم الفنان الجميل عزت العلايلي،  يجعلني على يقين أن تكريم الفنان، وهو على قيد الحياة، أمر حتمي لا يمكن التغاضي عنه أو تجاهله، بل مطلب إنساني قبل أن يكون تقليداً {مهرجاناتياً} يفرضه {البروتوكول} أو تقتضيه {اللائحة}، وليتنا ننتهز فرصة التكريم لنجعل من المناسبة فرصة لتقييم الفنان، وتأمل مسيرته، ورصد عطائه، عبر عرض أفلام تبرز ملامح شخصيته الفنية، وتضع أيدينا على مفاتيح موهبته، وإصدار الكتب التي تدرس وتحلل وتدعم هذا التقييم، ومن ثم ننأى بأنفسنا عن النظر إلى {التكريم} بوصفه {تأبين}، كما جرت العادة في السنوات الأخيرة، ونجعل من مهرجاناتنا عيداً حقيقياً نتبادل فيه التهاني مع الفنان المكرم بدلاً من أن نقدم العزاء لأسرته، ونُجدد أحزانها في وفاة كبيرها.. {ارحموا من في الفن يرحمكم من في السماء}!