في معظم القضايا المثيرة للجدل، مثل قضية الرقابة على المطبوعات التي تشتد حميّاها مع كل معرض كتاب، عادة ما يعلو اللغط والصخب بين الفرقاء، حتى تكاد منابر الصحافة ووسائل التواصل الإلكتروني تتحول إلى نسخة مقربة من برنامج "الاتجاه المعاكس" السيئ الذكر!
فالحِدة والتشنج وتسفيه الطرف الآخر وسوء التواصل وانعدام الإصغاء، هي ما يتسيد المشهد الثقافي والاجتماعي. بحيث لا يدري المتابع والمهتم متى سيتاح لهذه القضية أن تناقش بشكل أكثر تحضراً وموضوعية.لا يختلف اثنان على موضوع الحرية وكونها حقاً مكتسباً، وأيضاً لا يختلف اثنان على مسألة سذاجة الرقابة على المطبوعات في عصر أصبح فيه كل شيء متاحاً ورهن الطلب إلكترونياً. ورغم ذلك لاتزال العراقيل والحواجز تنصب أمام كتب ومطبوعات يعتقد البعض أن فيها ما لا يتناسب والعرف الأخلاقي أو الذوق المجتمعي. واللافت أن تلك "المخالفة" قد لا تتعدى عبارات معدودة أو صفحتين أو ثلاث، فيُمنع الكتاب بأكمله من التداول! ويستمر الشد والجذب بين المؤلف والرقيب، فلا المؤلف يتنازل عن حذف تلك العبارات أو الصفحات، ولا الرقيب يتسامح في ما أوكل إليه من جهة عليا.وأعتقد بأن ترصّد (الخارجين) عن العرف المجتمعي ليس وليد الساعة، ولا محصوراً في مجتمعنا وثقافتنا (المحافظة). فهو موجود في كل العالم بنسب متفاوتة، وطالما تابعنا ما يجري في الغرب والشرق لفلان وعلان من كبار الإعلاميين أو المراسلين الصحافيين أو الكتّاب بسبب زلات اللسان في بيان علني أو تغريدة ما تشف عن رأي مناهض يسيء إلى هيئات أو أشخاص أو يمس بشريحة في المجتمع. وعادة ما يكون العقاب التسريح الفوري من المنصب المرموق والاستغناء عن الخدمات مصحوباً بالامتعاض العلني ومشيعاً بسوء السمعة. هذا يحدث في أكثر بلدان العالم تحرراً وكفالة لحقوق حرية التعبير! إذ يبدو أن للحرية سقفاً متعارفاً عليه حتى في أكثر الديمقراطيات عراقة وانفتاحاً.ومسألة الرقابة والترصد مسألة بعيدة الجذور ليس في الثقافة العربية فقط، وإنما على امتداد التاريخ الإنساني. وكما صلب الحلاج بسبب تحليقه خارج السرب في ما يتعلق بالمسائل الإيمانية، وأحرقت كتب ابن رشد وغيره من الفلاسفة والعلماء، كذلك مُنعت مؤلفات أوسكار وايلد وروايات د. هـ. لورانس من التداول حال صدورها في مجتمع إنكليزي لا مجال للمقارنة بين محافظته ومحافظتنا.ولعل أُس المشكلة يعود إلى سوء فهم المجتمع لرسالة الثقافة أو رسالة الأدب بشكل أدق. فالعرف الاجتماعي عرف صارم وحازم وربما شديد الوطأة، في مسألة كونه الحارس للقيم والمدافع عن حياضها والموكل بحمايتها. ومن هنا صعب على الذهنية المجتمعية أن يستوعب ضرورة الفصل بين الأدب والأخلاق، وهي القضية التي طالما فسرها النقاد والمشتغلون في الأدب. فالأديب ليس واعظاً ولا داعية ولا مصلحاً اجتماعياً كما يظن معظم الناس، وليس مطلوباً منه أن يكون كذلك.والأدب في سعيه لتكريس الجانب (الجمالي) و(الفني) في النص لا يمر عبر غربال (القيمة الاجتماعية والأخلاقية) ومدى توافرها في النص، وإنما يحلق بأدواته إلى ما هو أبعد، لخلق مساحة تخييلية تسمح بتلمس أفق آخر لا صلة مباشرة له بالواقع. لذلك خلدت نصوص مثل الخمريات والغزل والهجاء أيضاً ، ليس بسبب موضوعاتها (المرفوضة اجتماعياً)، وإنما بسبب ما تحتويه من قيم فنية وجمالية عالية في مستواها البلاغي. ولنفس السبب خلدت نصوص روائية مماثلة تخوض في الجريمة والخيانة والعنف والشذوذ.. إلخ، ليس لموضوعاتها – فالمعاني كما يقول الجاحظ مبذولة في الطريق – وإنما لحبكتها الفنية وبنائها المعماري المميز ولغتها الجميلة.أعتقد بأنه ما لم نصل إلى تصور صحيح يفصل بين (الأخلاقي) و(الجمالي) في أمثلته النموذجية، ستظل قضية الرقابة قضية بلا حل.
توابل - ثقافات
عن الرقابة وحولها
24-11-2015