لا أجد رداً لجميل كل من علمني القراءة وأولعني بها، وأغفر له أنه فرض علي ما أقرأ لفترة من الزمن، فترة كانت كافية بأن أكون نسخة مشابهة للآخرين الذي مروا من تحت يديه. كان هو أيضاً محكوماً بطرق التعليم ومناهجها التي تم ترتيبها بعناية لتوجيه هذه العقول الصغيرة لتكون نسخاً متشابهة. القصائد المراد أن نتعلمها والنصوص التي يتم اختيارها بما يرضي الجهات التي تتولى دفع راتبه، كل ما في مدرسته لم يكن ليغري البقاء فيها، فلا حاجة لي بأن أستمر نسخة منه، والخروج عليه كان يتطلب جهداً ذاتياً ولغة ثانية أو تراجم من لغة ثانية، وعالماً ليس في متناول اليد.

Ad

الذين أحبوا الخروج على أستاذ النصوص كان عليهم أن يبحثوا عما هو مناقض للسائد، مخالف للمدرسة المفروضة، وعليهم أن يعتمدوا البحث الذاتي. ما توفره المدرسة النمطية يخدم أهداف المدرسة التي تؤمن بأن خير الشعر هو ما قيل أمام الخليفة، وخير الروايات هو ما التزم الوفاء لمنهجية المدرسة، وما عدا ذلك فلا يعول عليه ولا يعتد به أن يكون أدباً، هذا إذا لم يقع في خانة اللاأدب.

كان الشاعر مختار أبوغالي، أستاذ مقرر النصوص الأدبية، وضع مقرراً لا يختلف عما عهدناه في المدرسة النمطية. طلبنا منه أن نقرأ قصيدة لأمل دنقل فوافق، ولكنه اشترط أن يختار هو القصيدة فوافقنا. أتصور الآن أن ذلك كان مخالفاً لشروط مؤسسية سابقة لم يلتزم بها الأستاذ الشاعر.

في ذلك الزمن كان البحث عن الصوت المغاير يتم بعيداً عن المؤسسة التي تمنع أكثر مما تسمح ويتم أحيانا بتوصية من كتاب آخر أو بالصدفة المحضة. أما اليوم فالعالم يفتح ذراعيه لاختيارات قرائية عديدة وعوالم متباينة من الكتب والنصوص، ساهمت وسائل الاتصال الاجتماعي وتوافر النسخ الإلكترونية ومواقع بيع الكتب في توسيع رقعة انتشار الكتاب، كما حققت بعض معارض الكتب هذا الانتشار برفعها للرقابة بشكل أو بآخر، ولكن ما يمارسه القراء يجعل الأمر يشبه إلى حد ما وصاية المدرسة التقليدية التي اعتدنا عليها.

ما يتم تبادله بين القراء في وسائل الاتصال قراءات متشابهة يتناقلونها بينهم دون أن يعني ذلك أنها ليست جيدة أو لا تستحق الاهتمام، ولكنها ستخلق قارئاً موجهاً يتشكل بناء على ذائقة الآخرين. القراءة متعة لاحقة لمتعة سابقة، وهي متعة البحث والاكتشاف بعيداً عن التشابه. القارئ كالكاتب لا يود أن يكون نسخة من قارئ آخر، كما لا يود الكاتب أن يكون نسخة من كاتب آخر. لا يمكن أن يقنعني قارئ بأن نصاً ما أعجبه لأن أغلبية القراء أعجبوا به قبله.

المتابع للمساحة التي منحتها وسائل الاتصال للقراء للتعليق على ما يقرأون يرى أن الأغلبية توافق على آراء ترى في مخالفتها مخالفة للرأي السائد، فلا تكاد تقرأ رأياً نقدياً في الأغلب وإنما هي نسخ من آراء يفرضها اسم المؤلف في الغالب. ذلك ما يجعل القارئ موجهاً في قراءته وموجهاً في رأيه في ما يقرأ.