للمرة الأولى منذ تداعيات الأزمة المالية، انخفض سعر برميل النفط الخام الى أقل من 40 دولارا للبرميل، وذلك على وقع احتمالات بحدوث مزيد من التباطؤ في نمو الطلب العالمي الحالي، وتدفق مزيد من فائض الامدادات الى الأسواق. وقد يدل هذا التراجع، ومساره المتذبذب الذي بدأ منذ نحو 14 شهرا، على وجود علاقة غير طبيعية بين سعر النفط وامداداته من جهة، وسعر النفط والطلب العالمي عليه من جهة أخرى.
وتجد هذه العلاقة غير الطبيعية التي تتناقض مع معطيات قانوني العرض والطلب في علم الاقتصاد تفسيرا لها في خصوصية النفط، فالمنتجون التقليديون، «وخاصة الشركات التي تعود ملكيتها الى الحكومات وتسيطر على أكثر من 50 في المئة من الامدادات»، يرغبون في بيع مزيد من النفط عندما تتراجع أسعاره من أجل تعويض جانب من دخلهم المفقود، وهذا يتعارض مع قانون العرض الذي يؤكد العلاقة الطردية بين سعر السلعة والكمية المعروضة، بفرض ثبات العوامل الأخرى المؤثرة في العرض.في الجانب الآخر، يتوقف المستهلكون عن طلب مزيد من النفط مع استمرار الانخفاض في أسعاره، بسبب القيد اللوجيستي المتمثل في عدم قدرتهم على استيعاب مزيد من المخزونات، فضلا عن التوقعات المتصلة باستمرار التراجع في الأسعار، وهذا من شأنه أن يعطل فاعلية قانون الطلب الذي يؤكد العلاقة العكسية بين سعر السلعة والكمية المطلوبة، بفرض ثبات العوامل الأخرى المؤثرة في الطلب. لكن ضعف تأثير انخفاض الأسعار على الطلب يؤكد في المقابل مبدأ اقتصاديا آخر، هو أن الطلب على النفط، بوصفه سلعة ضرورية شديدة الأهمية، طلب ذو مرونة سعرية متدنية جدا، أي أن تراجع أسعاره لن يؤدي الا الى زيادة طفيفة في الكمية المطلوبة، تقل كثيرا عن مقدار الانخفاض في أسعاره.قد تكون دول «أوبك» وهي تتخذ قرارها في ديسمبر الماضي بالدفاع عن حصتها السوقية، وعدم الدفاع عن تماسك الأسعار، قد صرفت النظر عن بعض من هذه المعطيات الاقتصادية التقليدية، وكان هدفها الرئيسي منصبا على تحقيق انتصار سريع على منتجي النفط الصخري ومنتجي النفوط التقليدية من ذوي التكاليف المرتفعة.ولا جدال هنا في أن استراتيجية «أوبك» قد نجحت في تحجيم صناعة النفط الصخري، والحد من توسعها وطموحات روادها، وإن الى حين. ولكن فائض الامدادات لم يأت من جانب النفط الصخري فحسب، بل نتج أيضا من التوسع في انتاج النفوط التقليدية خارج «أوبك»، ومن عودة نفوط تقليدية لدول أعضاء في «أوبك» كانت قد قلصت انتاجها بفعل تداعيات سياسية، كما نتج في السنة الأخيرة عن الزيادة في الانتاج بهدف تعويض جانب من الدخل المفقود بسبب الأسعار المنخفضة للنفط. ولا جدال أيضا في أن سعرا منخفضا للنفط سيحفز مزيدا من الطلب العالمي باعتباره عنصرا أساسيا من عناصر الانتاج، ومحفزا رئيسا للاستثمار، وأداة فاعلة في ابطاء التحول نحو بدائل الطاقة، فضلا عن كونه محفزا رئيسيا للنمو في قطاع المواصلات، ولكن تحقق ذلك مرتبط بدورات النمو الاقتصادي في الأجل المتوسط وليس القصير.وقد لا يتحقق التحسن في مسار الأسعار اذا ما استمرت التحولات الاقتصادية والسياسية المتلاحقة وغير المواتية في التأثير سلبا على توقعات النمو العالمي، فالتقارير الواردة من الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم تشير الى تباطؤ وتيرة النمو والتعافي في هذا الاقتصاد، وهو الذي شكل أحد أهم مصادر النمو في الطلب على النفط في السنوات الأخيرة، كما أن استمرار حالة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط على مدى سنوات عدة قد حولها من حالة استثنائية الى قاعدة مما أفقدها جزءا من قدرتها في التأثير على سعر النفط.ان الطبيعة الديناميكية لأسواق النفط من جانب، وخصوصية اقتصاديات سلعة النفط من جانب آخر، تحتمان على دول المنظمة أن تعيد قراءة وتحليل المعطيات السياسية والاقتصادية الراهنة واحتمالاتها المرتقبة، ومن ثم اعادة ترتيب أوراقها وتقييم فاعلية قرارها بالدفاع عن حصتها من السوق العالمي، بدلا من المحافظة على تماسك واستقرار الأسعار. ولا مناص، و«أوبك» في وضعها الراهن الذي لا تحسد عليه، من البحث عن آلية فعالة للحوار والتنسيق مع البلدان المنتجة خارج «أوبك». *أستاذ الاقتصاد، جامعة الكويت
مقالات
وجهة نظر : هل تعيد «أوبك» قراءة الخارطة؟
30-08-2015