تناولت في مقالي الأحد الماضي، ما قرره البرلمان المصري من بطلان المراسيم بقوانين الصادرة خلال فترة تعطيل الحياة النيابية الأولى من 1924/12/24 حتى 1926/6/10، وما قرره البرلمان المصري كذلك من بطلان المراسيم بقوانين التي صدرت خلال فترة تعطيل الحياة النيابية الثانية من يونيو 1928 حتى عودة الحياة النيابية سنة 1930.

Ad

الملك يمارس سلطته بواسطة وزرائه

دبّت الخلافات بين الملك وبين الحكومة والبرلمان في وقت مبكر، والتي أدت إلى تعطيل الحياة البرلمانية في فجرها كثيراً عندما أصرت أول حكومة وفدية شُكِّلت برئاسة سعد زغلول، زعيم الثورة، على وجوب أن يستخدم الملك سلطاته بواسطة وزرائه إعمالاً للمادة (48) من الدستور، وذلك عندما أصدر الملك مرسوماَ بتعيين خمسة أعضاء بمجلس الشيوخ، دون العرض على مجلس الوزراء، في أول انتخابات جرت لهذا المجلس في 22 فبراير سنة 1924، استخداماً لسلطته المنصوص عليها في الدستور، واعترض سعد زغلول على هذا المرسوم وطالب الملك بالانصياع لحكم الدستور، وعندما استفحل الخلاف بينهما احتكما إلى فان دن بوش النائب العام البلجيكي أمام المحاكم المختلطة، فأصدر فتواه بتأييد وجهة نظر الحكومة.

وأطل الموضوع برأسه ثانية عندما أصدر الملك مرسوماً بتعيين حسن نشأت وكيلاً للديوان الملكي، فقدم سعد زغلول استقالة حكومته، ورفض العدول عنها، إلا إذا قبل الملك ألا ينفرد بمنح الرتب والنياشين أو بتعيين موظفي السراي بغير موافقة الحكومة، وقبل الملك شروط سعد زغلول، وعدل سعد عن الاستقالة.

وحين تشكلت حكومة ائتلافية برئاسة عبدالخالق ثروت في 26 أبريل 1926 بتأييد حزب الوفد والأحرار الدستوريين، واعتزم الملك القيام برحلة إلى أوروبا أصرت الحكومة على أن يصطحب معه وزير خارجيته، كما تجري بذلك التقاليد الدستورية، ورفض الملك، فرفض البرلمان إقرار الاعتماد المالي لهذه الرحلة، إلا بعد أن يوافق الملك على اصطحاب وزير خارجيته.

إلا أن هذه السوابق الدستورية لم تصمد كثيراً أمام الحكومات الضعيفة التي كان يشكلها الملك، فلم تحذُ حذوَ سعد زغلول وعبدالخالق ثروت.

ونعود إلى المراسيم بقوانين الصادرة خلال فترة تعطيل الحياة البرلمانية بأمرين ملكيين، وهي المراسيم التي أبطلها البرلمان، لنتناول رأي محكمة النقض في قضائها المخالف لرأي البرلمان.

محكمة النقص تخالف البرلمان الرأي

وكان لمحكمة النقض المصرية رأي آخر يخالف رأي البرلمان في طعن أقامته النيابة العامة على حكم أصدرته محكمة الجنايات في قضية كانت النيابة تطالب فيها بتطبيق أحد المراسيم بقوانين التي أبطلها البرلمان.

وكانت المحكمة قد امتنعت عن تطبيقه امتثالاً لقرار البرلمان، فقضت محكمة النقض بتاريخ 1931/12/4 بنقض الحكم المطعون فيه، لأن المرسوم بالقانون مازال قائماً ونافذاً، وأنه لا يمكن تعديله أو إلغاؤه إلا بقانون.

وقد بنت محكمة النقض قضاءها على أساسين، أولهما أن دستور 23 عدل بذات الأداة التي صدر بها، حيث قالت المحكمة في حكمها:

إن المرسوم بقانون محل المنازعة القضائية لم يصدر طبقاً للمادة (41) من الأمر الملكي الصادر في 1923/4/29 بدستور سنة 1923 "فلم تطبق أحكامه الخاصة بالسلطة التشريعية التي أوقفت لتحل محلها أحكام الأمر الملكي رقم 46 لسنة 1928 الذي نص على "أن السلطة التشريعية التي يتولاها الملك تأتي طبقاً لحكم المادة 48" أي بواسطة وزرائه، ومن ثم صار من وقت صدوره نظاماً من أنظمة الحكم في البلاد.

ومتى تساوى الأمران الملكيان في المرتبة الدستورية، فالقاعدة أن اللاحق ينسخ السابق.

والأساس الثاني تحصين المراسيم من الرقابة البرلمانية، والذي تقول فيه محكمة النقض إن الأمر الملكي الصادر بتاريخ 22 أكتوبر سنة 1930 نص على أن كل الأحكام، وكل ما سن أو اتخذ من الإجراءات، طبقاً للأصول والأوضاع التي قررها الأمر الملكي رقم 46 لسنة 1928 تبقى نافذة وتظل تنتج آثارها غير منقطعة الحكم في الماضي.

ومؤدى هذا النص هو تحصين المراسيم بقوانين من أية رقابة برلمانية وأن الأمر الملكي المذكور يكون قد أعفى السلطة التنفيذية من الالتزام بعرضها على البرلمان، كما أعفى البرلمان من مسؤوليته في إقرارها أو رفضها.

د. السنهوري يقر هذا القضاء

وبعد ثمانية عشر عاماً من صدور حكم محكمة النقض سنة 1949 أقر بسلامة النظر الذي أخذت به محكمة النقض الفقه الدستوري، ممثلاً في الراحلين د. عبدالرزاق السنهوري والدكتور سيد صبري، إذ قال أولهما في مقال نشر له في مجلة مجلس الدولة:

"نلاحظ ما وقع في تاريخ مصر الدستوري من وقف العمل بالدستور أو استبدال دستور آخر به، فإذا نص في فترة توقف الدستور أو في فترة الانتقال إلى دستور آخر على أن تتولى السلطة التنفيذية التشريع عن طريق إصدار مراسيم لها قوة القانون، فهذه المراسيم تعتبر تشريعات كاملة لا تلغى إلا بتشريعات أخرى يوافق عليها المجلسان، فهي لم تصدر تطبيقاً للمادة (41)، من دستور 1923 بل صدرت تطبيقاً لأمر ملكي آخر يقضي بأن تتولى السلطة التنفيذية التشريع".

(راجع مخالفة التشريع للدستور الانحراف في استعمال السلطة التشريعية- مجلة مجلس الدولة السنة الثالثة، يناير سنة 1953 ومجلة القضاء- السنة الـ19 العدد الأول عدد يناير – يونيو 1986 ص 314)

د. السيد صبري يتفق وهذا القضاء

إذ يقول: "من المهم التفرقة بين المراسيم بقوانين التي تصدر أثناء الحياة النيابية، أي في ما بين أدوار انعقاد البرلمان وفي فترة الحل والمراسيم بقوانين التي تصدر أثناء تعطيل الحياة النيابية والأولى فقط هي التي يسري عليها حكم المادة (41) من دستور 1923، وتزول إذا لم تعرض على البرلمان في أول اجتماع له عند عودته، أو إذا رفضها أحد المجلسين، أما الثانية فلا تزول قوتها القانونية عند اجتماع البرلمان بعد عودة الحياة البرلمانية، بل تعتبر قوانين قائمة ما لم يلغها البرلمان بقوانين أخرى، وبديهي أنه لا يكفي لإلغاء هذه المراسيم قرار يصدره المجلس باعتبارها باطلة". (راجع مؤلفه في مبادئ القانون الدستوري طبقة 1949 ص 489)

مبادئ دستورية أرساها البرلمان والقضاء

البرلمان كان يرسخ لمبادئ دستورية ثلاثة، أولها أن الملك يسود ولا يحكم، والثاني أنه ليس من حق الملك تعطيل الحياة البرلمانية أو تعطيل الدستور، والثالث أنه لا يجوز أن تكافأ الحكومة على تعطيل الحياة البرلمانية بتمرير المراسيم بقوانين التي صدرت في غيبة البرلمان بعد هذا التعطيل.

ومحكمة النقض كانت كذلك ترسخ لمبدأين دستوريين آخرين، أولهما مبدأ الفصل بين السلطات، والآخر مبدأ استقلال القضاء، وهما جوهر النظام الديمقراطي، والركن الركين في قيام الدولة القانونية.

والواقع أن تعطيل الحياة البرلمانية كان خيار الملك الوحيد أمام قوة البرلمان وقوة الحكومة، ورغبتهما في إقامة نظام ديمقراطي ودستوري سليم، من خلال الحد من صلاحيات الملك، مثلما هو الحال في بريطانيا، أعرق الدول الديمقراطية، والتي كان احتلالها لايزال جاثماً على أرض مصر، في الوقت الذي كان يسعى فيه الملك فؤاد إلى الاستئثار بالسلطة والحكم والاستبداد كما كان يفعل أجداده أولاد محمد علي.