جعل فلاديمير بوتين أوساط السياسة الخارجية الأميركية تقف مذهولة، فقد أعرب أحد الصحافيين عن إعجابه بـ"الحسم" الذي دفع الرئيس الروسي إلى "أخذ زمام المبادرة" في الشرق الأوسط، كذلك أشار دبلوماسي مخضرم بجدية: "بلغنا أدنى درجات نفوذ الولايات المتحدة وتدخلها في المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية"، وأعلن محلل سياسي واسع الخبرة: "منذ نهاية الحرب الباردة قبل ربع قرن، لم نرَ روسيا حازمة إلى هذا الحد وواشنطن مذعنة".
نعم، مرّ ربع قرن منذ أن كانت موسكو ميالة إلى التدخل خارج حدودها إلى هذا الحد، ففي آخر مرة أقدمت فيها على خطوات مماثلة كان ذلك في أواخر سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حين غزت أفغانستان وتدخلت في عدد من البلدان الأخرى، في تلك الحقبة أشاد المعلقون على نحو مماثل بهذه الأعمال، معتبرين إياها إشارة إلى أن موسكو تفوز في الحرب الباردة، ولكن ما كانت نتيجة كل ذلك بالنسبة إلى الاتحاد السوفياتي؟طورت نخبة السياسة الخارجية في واشنطن طريقة تفكير تعتبر خطأً القيام بخطوات إنجازاً، وتفترض هذه النخبة أن كل أزمة حول العالم يمكن ويجب أن تُحل بتأكيد قوة الولايات المتحدة بعزم، وخصوصاً من خلال القوة العسكرية. وتعتبر أن الإخفاق في ذلك يشكل نوعاً من السلبية ويؤدي إلى الضعف، وانطلاقاً من هذا المنطق تكون روسيا وإيران سيدي الشرق الأوسط الجديدين، ومَن يأبه بأن هاتين الدولتين تسعيان لإنقاذ حليف يغرق؟ يشكل عملاؤهما، العلويون في سورية، نظام أقلية يمثل أقل من 15% من سكان البلد، فضلاً عن أنهم يواجهون تمرداً مميتاً تدعمه شرائح كبيرة من المجتمع. نتيجة لذلك، تستنزف إيران مواردها في سورية، وإن حققت روسيا وإيران النصر بطريقة ما، رغم كل الظروف المعاكسة، تحصلان على سورية التي تشكل مستنقعاً لا جائزة. تولت الولايات المتحدة القيادة في أفغانستان طوال 14 سنة، فهل عزز ذلك قوتها؟في سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر، كانت قوى أوروبا الكبرى تتسابق لتكسب النفوذ في إفريقيا، التي شكلت بقعة الأرض الأخيرة التي لا مالك لها، وكانت كل المسائل تدور حول أمة واحدة: ألمانيا، فقد اعتقد مستشارها أوتو فون بسمارك بعينيه الحديديتين أن تدخلات مماثلة ستستنزف قوة ألمانيا وتحوّل الانتباه عن تحدياتها الاستراتيجية الأساسية؛ لذلك عندما عُرضت عليه خريطة إفريقيا بغية زيادة حماسته، ردّ: "تبدو خريطتكم لإفريقيا ممتازة، إلا أن خريطتي لإفريقيا تقع في أوروبا. ها هي روسيا وها هي فرنسا، ونحن في الوسط، هذه هي خريطتي لإفريقيا".تخيل لو أن مؤيدي التدخل اليوم حققوا مرادهم وصعّد الرئيس باراك أوباما استخدام القوة وسقط نظام الأسد، فما النتائج التي كان سيحققها؟ إليك بعض الإشارات: أطاحت واشنطن بنظام صدام حسين في العراق (جارة سورية التي تعاني القدر نفسه من الانقسامات الطائفية والقبلية). ولا شك أن ما قامت به في العراق يفوق كل ما يُطالب به في سورية: فقد أنزلت 170 ألف جندي على الأرض خلال ذروة هذه المهمة وأنفقت ما يُقارب الملياري دولار، ورغم ذلك، نشأت كارثة إنسانية مع تهجير نحو 4 ملايين مدني ومقتل ما لا يقل عن 150 ألفاً، وعلى نحو مماثل أطاحت واشنطن بنظام معمر القذافي في ليبيا، إلا أنها قررت ترك عملية إعادة بناء الأمة للسكان المحليين، فكانت النتيجة كما وصفتها مجلة "نيويورك"، "أرضاً خراباً دمرتها الحرب". وفي اليمن دعمت الولايات المتحدة تغيير النظام وإجراء انتخابات جديدة، فماذا كانت النتيجة؟ حرباً أهلية تمزق البلد؛ لذلك على مَن يعتبرون أنفسهم أبراراً وهم واثقون من أن التدخل التالي سينقذ حياة الناس أن يتوقفوا قليلاً ويفكروا في العواقب الإنسانية لهذه العمليات الثلاث الأخيرة.في السيرة الذاتية المتقنة والمتعاطفة التي أعدها نيال فيرغسون عن المراحل الأولى من حياة هنري كيسنجر، لفت نظري مدى التشابه بين الجو العام اليوم وما كان سائداً في خمسينيات القرن الماضي. نعتقد اليوم أن ذلك العقد شكل ذروة بالنسبة إلى الولايات المتحدة، إلا أن نُخب السياسة الخارجية في البلد آنذاك شعروا بالاستياء لأن واشنطن كانت تتصرف بسلبية وتقف مشلولة أمام النشاط السوفياتي. كتب كيسنجر في مقدمة كتابهThe Necessity for Choice (ضرورة الاختيار) عام 1961: "إذا استمر هذا التراجع في مكانتنا في العالم لخمس عشرة سنة إضافية، فسنتحول إلى حصن الولايات المتحدة في عالم نُعتبر فيه غير ملائمين إلى حد كبير"، وقبل بضع سنوات في الكتاب الذي أطلق مسيرته المهنية، Nuclear Weapons and Foreign Policy (الأسلحة النووية والسياسة الخارجية)، نادى كيسنجر بالاستخدام التكتيكي للأسلحة النووية بغية التوصل إلى طريقة للرد على النشاط السوفياتي، وكان كيسنجر من بين الأذكاء والأكثر وعياً بين تلك المجموعة.حفلت خمسينيات القرن الماضي بما بدا، إذا نظرنا إليه اليوم، اقتراحات بالغة الخطورة هدفها إثبات قوة الولايات المتحدة، منها الإطاحة بالرئيس المصري جمال عبدالناصر، والمواجهات العسكرية مع هنغاريا، واستخدام الأسلحة النووية في مسألة تايوان، كذلك شعر المحللون السياسيون بالاستياء لأن فيتنام الشمالية وكوبا تبنتا الشيوعية، في حين وقفت الولايات المتحدة مكتوفة اليدين.وسط كل هذه الصيحات المطالبة بالتحرك، حافظ رجل واحد، الرئيس دوايت أيزنهاور، على هدوئه، مع أن هذا أدى إلى تراجع شعبيته (أنهت إدارة كينيدي/جونسون هذه السلبية، وخصوصاً في كوبا وفيتنام، إلا أن النتائج كانت كارثية)؛ لذلك أعتقد أننا بعد عقود من اليوم سنسعد لأن باراك أوباما اختار السير على خطى أيزنهاور نحو القوة العالمية، لا خطى بوتين.* فريد زكريا
مقالات
كفى ذهولاً حيال بوتين!
19-10-2015