متى احتلّ «الإسلام السياسي» «الإسلام»؟

نشر في 14-08-2015
آخر تحديث 14-08-2015 | 00:01
 فوزي كريم أعطِ للإسلام السياسي السلطة التي يتوق إليها، ترَ بوضوحٍ الشيطانَ الذي تقمص أفعى وجاء يسعى بتفاحته إلى حواء وآدم. «الإسلام السياسي» احتلّ الإسلام، أو حاول بمواربة احتلاله بعد وفاة الرسول مباشرة، منذ شُرعت سيوف القبائل والتحزبات باتجاه زمام السلطة، ثم حقق ذلك تاماً لا نقص فيه بعد الخلفاء الراشدين.

ولكن احتلال الاسلام السياسي لم يُخفِ الدين وراء قناعه، فالدين في حماية الناس، واتساع الناس لا حدود له، والاسلام السياسي يتمركز في قلعة السلطة المنيعة حيث الثروة، ومن ملك الثروة ضمن حمايته واتساع سلطانه. الاسلامُ السياسي حكم أمةَ الإسلام، عربيةً وغير عربية، حتى مراحلنا المتأخرة، والذي عزّز قوتَه على الأرض أن «الدين السياسي» عبر التاريخ وعبر الأمم، واحد؛ فالغرب المسيحي عاش التجربة ذاتها، على يد رجال «مسيحيته السياسية»، ونشأةُ حضارة الغرب منذ عصر النهضة اعتمدت نباهتها بهذا الشأن، وعرفت أن لا مجال لأية خطوة تطور للأمام دون السعي إلى فصل الدين عن الدولة، وكان سعياً دامياً، قَدمت دونه تضحيات جساماً، لأن النتيجةَ الحتمية للفصل هي إرجاع رجال «الدين السياسي» إلى أماكن العبادة، وهو مسعى يكاد يكون مستحيلاً؛ فحلاوة السلطة، وحلاوة المال، وحلاوة ملاذّ الدنيا، حتى لو كانت وراء حجاب، تفوق في قواها لديهم كل القوى الروحية التي يتمتع بها الدين، ثم إن كتبَ الرسلِ المنزلة، وأحاديثَهم المرويّةَ عرضةً للتأويل، وحمّالةَ أوجه، والمجنّدون للتأويل والتفسير لصالح الأقوى على قفا من يشيل. كما يقول المثل.

مع طلعة النورِ الواهنة التي أطلّت على العالم العربي والاسلامي في نهايات القرن التاسع عشر، وعبر النصف الأول من القرن العشرين، وبتأثير الغرب دون شك، استيقظت نباهةُ عصر النهضة فيهم، فأيقظتهم على حقيقة ما حدث وراء البحر منذ خمسة قرون، ونشطوا بهذا الاتجاه، ولم يخلُ سعيهم من عقول دينية لا تقل استنارة، فالمرحلة بجملتها يغمرها ضوءُ وعي جديد.

 ولكن لعلل لا سبيل إلى عرضها الآن، بدأ العالم الاسلامي، والعربي في المقدمة، ينحدر بتسارع يفوق التصور، لقد استولى العسكر، معَزّزين بالشعارات الإيهامية التي موّلتهم بها الأحزاب الثورية (من عبدالناصر إلى القذافي وصدام حسين)، على الأرض والإنسان وقواهما، بشراسة السلاح ولين الإغواء. وصارت ثقافة المثقفين إيهامية هي الأخرى: هيا نستيقظ قومياً، أممياً، إسلامياً. أنا حداثي، الغرب عدونا. نحن أمة عظيمة، ضحكت من جهلها الأمم (ما من متسع للنقد الذاتي العقلاني). في كل خمس سنوات ثمة تقليعة للثقافة تُمليها دورُ النشر الرابحة دائماً، والإعلام الثقافي والسياسي الرابح دائماً: الماركسي امتداد لماركس الألماني (هناك تروتسكي، ماوي، جيفاري..)، والوجودي امتداد لسارتر الفرنسي، والستيني امتداد لستينيي فرنسا وأميركا الشباب، والقومي (قومية سورية، مصرية، أم عربية!)، امتداد للنشوة القومية الألمانية، والحداثي وريث رامبو وبونفوا، حتى تضاعفت التقليعات بصورة مضحكة مع الزمن. وهي في جميعها امتداد لجذر في الغرب، العدو اللدود.

حين بلغ العالم العربي الحضيض، بدأ «الإسلام السياسي» العريق والعميق الجذور يستيقظ. فرصة له لا تُفوّت، لأن كل ما يراه من هذه الثقافة، ومن هذه الأنظمة وليدة الانقلابات الثورية، بالوناتٍ هوائيةً، ما أيسر أن تُفقأ. وفُقئت بيسر فعلاً. والآن يهيمن الاسلام السياسي بكل عدته من السلاح والمال والخبرة السياسية، على خارطة العالم العربي والاسلامي. وعاد «إسلام محمد» في قلوب أمته المتعبة، ينظر بارتياب وخوف إلى «الإسلام السياسي» بكل عدة المقاتل، يحاول استعادة هيمنته العريقة.

 تداعت هذه الخواطر في رأسي، وأنا أشاهد عبر الشاشة مظاهرات البشر المغلوبين على أمرهم التي يضج بها العراق اليوم. أشاهد اليسر الذي انتُزعت فيه هيبة العمائم السود والبيض من قلوب الناس وعقولهم. إنها المرة الأولى التي أرى اللافتات تضع تحت صور رجال عمائم سود شائعي الصيت عنوان: «شيوخ الضلالة والفساد والجهل»، وتحت حشد من رجال الحكم الديني، والسيد الحكيم في مقدمتهم، نقرأ: «إلى جهنم وبئس المصير». وآلاف من شعارات شبيهة تملأ الشارع العراقي، ولك أن تتخيل شعارات ساحات الإنترنت التي لا تُحدّ، تدور بحيوية حول «ساحة التحرير» في قلب بغداد.

back to top