بلند الحيدري... استعادة

نشر في 06-08-2015
آخر تحديث 06-08-2015 | 00:01
 فوزي كريم في شهر شبيه بشهر حزيران (يونيو) هذا من عام 1996 توفي بلند الحيدري، أحد رواد حركة التحديث الشعري العربي، في لندن. وبالرغم من أنه يسكن على مقربة من بيتي، وأن علاقتنا ببعض كانت سليمة وطيبة، فإن لقاءاتنا كانت متباعدة، في الأخيرة منها كان مرتاباً من اضطراب قلبه، وارتيابه مشوب بخوف كانت ملامحه لا تخفيه. على أن هذا الخوف لم يكن يعفيه عن التزام الأناقة المعهودة لديه. ومستوى دماثته لا يقل عن مستوى أناقته، فهو يتجنب كل ما يؤلبه على مشاعر الكراهية، ولا يسعى إلى الخلاف، وميله إلى السلام يجعله يبدو في موقع ضعف أحياناً.

ومثل طفل تجده يطرب إذا ما تكرّمت عليه بإطراءٍ لشعره، ولدوره بين الرواد. وكان هذا يُشعرني بمقدار ما تعرض له شعر بلند من إهمال حتى بعد مماته. والعلة وراء هذا ان بلند كان يسعى إلى الوجاهة الاجتماعية أكثر من سعيه إلى الشهرة الشعرية. الأولى تحققها العلاقة الخاصة والمهذبة مع ذوي المكانة، والثانية تحققها العلاقة العامة والرخيصة أحياناً مع ناشطي الصحافة والمهرجان.

حين أصدر بلند الحيدري مجموعته الأولى "خفقة الطين" 1946، كان في العشرين من عمره. في هذه السنة كان السياب يُلقي قصائده السياسية اليسارية الملتهبة على الجمهور، ولم تكن رياح السياسة هذه لتمس مزاجاً داخلياً ملتهباً بمعضلات، لا تقرب التاريخ بل الوجود، كمزاج بلند الشعري.

إن هذا الشاب الذي يسير قلقاً مع الوجود كأنه "يمشي بأيامه على بركان"، ينطق لا عن نضج شخصي فحسب بل عن نضج مدينة كبيرة، عرفت نمو طبقة وسطى يطمع أبناؤها بالتفلسف بشأن الحقائق الكبرى: الانسان وسر السعادة الغائم، الوجود وما بعده، الشهوة والموت، البحث عن الله والخلاص... الخ. أسئلة كبرى تليق بشاعر حديث، لم يُسعفه موروث الشعر العربي بالارتفاع إلى أفقها بيسر، لولا مصدر إضاءة يتمثل في المعري، وكان عميق الاعجاب به.

    كان بلند الحيدري وأبناء جيله آنذاك أحراراً. وكانت معاداةُ المجتمع، والمحافظين لهم، وارتيابُ السلطة بأفكارهم الغامضة مأمونة الجانب بصورة من الصور. فالتهمة لا تودي إلى تهلكة، إنما هي مُعاداة تُعمق من هذه الحرية، وتُعطيها معنى. كانت بغداد تحفل بالمقاهي حتى انه وبعضا من صحبته قرروا تأسيس مقهى خاص بهم سموه "مقهى الوقت الضائع".

    تحزّبات هؤلاء الشبان، لم تكن تحزبات سياسية، بل فكرية / فنية معيارها القرب أو البعد من الحداثة. ولذلك كان مقهاهم عرضة لاتهامات "شبان من أهل اليسار وشبان من أهل اليمين... وأن بعضهم كان يمر بالمقهى بسيارات جيب مفتوحة ليسبونا بأقذع أنواع السباب، ولم يتوان بعضهم الآخر عن رمينا بحصى صغيرة أو بقطع من الطماطم العفنة". (عن كتاب بلند الحيدري "عودة إلى الماضي"). هذه الحصى وهذه الطماطم تحولت بعد ثورة 58 إلى رصاص وسكاكين.

    أصدر بلند الحيدري مجموعته الثانية "أغاني المدينة الميتة" عام 1951. والفارق بين عنواني المجموعة الأولى والثانية يشي بطبيعة التحول لدى شاعر المدينة هذا. الانسان في الأولى محض خفقة طين، لا مصير له خارج دوامة الرغائب الحسية التي لا ينفصل طينُها الأرضي عن وحلها الأرضي: "نحن طينٌ وأيّ طين حقير؟! فلم الخوف من خوالجِ طينك"، في حين يبدو في الثانية ندّاباً، في مدينة ميتة: "نفسُ الطريقْ/ نفسُ البيوت يشدّها جهدٌ عميقْ/ نفس السكوت.."

حين أطبق الشاغل السياسي/ التحزبي على أنفاس الشعر، انجرّ شعراء المأزق الوجودي، مضطرين، إلى تيار القصيدة الملتزمة. فأضعف هذا شعر بلند. بالرغم من أنه كان وفياً لصوته الداخلي القديم في قصيدته الطويلة "حوار حول الأبعاد الثلاثة". هذا السعي وسط ظروف سياسية بالغة العنف والإيهام، عطّل قدرةَ بلند على المواصلة، حتى انقطع عن الكتابة تماماً، إلى أواخر الثمانينيات من القرن الماضي. وقد اعترف لي في لقاءاتنا الأولى في لندن بأنه توقف عن كتابة الشعر عن قناعة ورضى. ولكن فورة الصحافة العربية في المنفى، وهيمنة ظاهرة المهرجان في العالم العربي، حفّزت بقايا موهبة بلند الشعرية للعودة.

back to top