قنديل رمضان المسروق!

نشر في 25-06-2015
آخر تحديث 25-06-2015 | 00:01
 مسفر الدوسري في كل عام هجري في مثل هذا الشهر... أفتقد شهر رمضان أكثر... أصبحت أفتقد ملامح "الحاج" أو "الملا" رمضان في ملابس هذا الشهر أكثر!! أفتقد عباءته التي يغزل نسيجها كل فرد من أفراد المجتمع! من الطفل إلى الكهل... الكل يشارك في نسج هذه العباءة، ويرى خيوطه فيها، نقشاً لا يسيل مع الماء كلما تغسل العباءة في كل عام!

كنا أطفالاً لا نعي حقاً تلك المعاني العميقة لشهر رمضان، ولكنّا نكاد نكون أكثر الفرحين لقدومه، ربما لأنه الشهر الوحيد بالنسبة لنا كأطفال في ذاك العمر الذي نشارك فعلياً مع كل شرائح المجتمع في صناعة أيام كريمة على مقاس الجميع، المحتاج وغير المحتاج، العاقل والمجنون!

أيام كهذه لا تتكرر إلا في هذا الشهر، سلوكيات لا تتكرر إلا فيه، تفاصيل لا تتكرر إلا فيه، أناشيد، أصناف طعام، ومذاق ليالٍ لا يتكرر إلا فيه، وكنا جزءا في صناعة كل ذلك، نحمل الصواني معبأة مما سنأكله على مائدة الإفطار في بيتنا إلى كل بيوت الحي بيتاً بيتاً، وكذلك تفعل كل بيوت الحي، وتلك اللحظات المضحكة بانتظار مدفع الإفطار، حتى غدا مدفع الإفطار ذاته جزءا من ذاكرتنا التي تربطنا في هذا الشهر، وعند الإفطار كل الحي يجتمعون على مائدة واحدة، الكل يأكل من مطبخ الحي، وليس من مطبخ بيت لوحده، كل بيت من بيوت الحي قدم بكل محبة ما جاد به مطبخه في ذلك اليوم، وقبله الجميع بكل رضى فإذ بهم على مائدة واحدة، برغم الجدران!

تلك لحظة مضيئة بكل جلال معانيها في الذاكرة، أبو"طبيلة" أو "المسحراتي" "القرقيعان" وما تصاحبه من طقوس في كل بيوت الحي، وكأن "القرقيعان" فرحة يشارك في صنعها الجميع، ليقدموها لنا كأطفال في الليلتين من هذا الشهر، كل البيوت تتفنن في صناعة تلك الفرحة، ومازلت أرى في جدران الذاكرة بقايا نقوش بعض بيوت الحي التي كان "قرقيعانهم" المفضل لنا كأطفال الحي في كل عام، لما يتميّز به قرقيعانهم بين بيوت الحي من نوعية المكسرات وجودتها، وقطع الحلوى، إضافة، وهذا الأهم، إلى بعض القطع النقدية التي كانت تُدسّ بين الحلوى، وكنا كأطفال دون أن نشعر، لجنة تحكيم تقييم قرقيعان كل رمضان، عن طريق نشر خبر أن البيت الفلاني هو أفضل قرقيعان لذلك الشهر، ما يجعل البيوت الأخرى تحاول المنافسة شهر رمضان الذي يليه، وهكذا، أفتقد هذا الدلال الذي يشارك فيه المجتمع فرحة الأطفال بهذا الجمال ويتنافسون في صناعتها!

أفتقد "دلال القهوة" و"الشاي" و"الحليب بالهيل"، التي نأتي بها من بيوتنا إلى المسجد كعادة معظم أهل الحي، في كل صلاة "تراويح" وصلاة "قيام" في هذا الشهر، ودورنا كأطفال أن "نقهوي" المصلين خلال استراحتهم بين الركعات في ساحة المسجد أمام مواقد النار الصغيرة، أما كهول الحي والذين نعرفهم جيدا لأنهم من أهلنا، فكنا نذهب إليهم في أماكنهم حيث يصلون، ونقدم لهم الماء وفناجيل القهوة.

أفتقد مجتمعاً كان مخلصاً في غزل عباءة سمائه، وكان للطفولة مساحة منها! لم تعد تلك العباءة بشكلها الجميل، أشعلنا بتلك العباءة النار بحجة المدنية، أصبحنا مدنيين، مدنيين يقض مضاجعنا "أبو طبيلة"، مدنيين نتشارك ربما مع الآخرين نفس الطعام، ولكن لا نتشارك المائدة، بل ربما لا نتشاركها مع من هم يجلسون معنا عليها!

تمدّنا نعم، ولكنّا لم نتحضّر!

المدنية أسلوب حياة فرد، أما الحضارة فأسلوب حياة يتوارثه المجتمع!

أفتقد أن شهر رمضان ليس طقساً دينيّا فقط، وإنما أيام من طقس حضارة المجتمع!

وكل رمضان وأنتم بخير، أو ما تبقى منه، وعساكم من عواده.

back to top