تشير التطورات إلى أن السعودية «القلقة والمتحسبة» من الاتفاق النووي الإيراني، والمنزعجة من بعض المواقف الخليجية غير الواضحة والقاطعة في «الاصطفاف» ضد «التربص الإيراني»، وغير المعولة على «العنصر التركي» في الترتيبات الإقليمية الجديدة، تعيد تأسيس علاقاتها مع مصر على أسس جديدة.
إذا كنت من هؤلاء الذين يتابعون الإعلام السعودي بانتظام، خصوصاً مقالات الرأي والتحليلات التي تتعاطى مع الشأنين الإقليمي والدولي، فلعلك تدرك أن هناك تغيراً لافتاً في بعض المواقف الخاصة بالعلاقات مع مصر، ودول الخليج العربية، وتركيا، وإيران، والولايات المتحدة.تعرف السعودية إحدى أكثر مؤسسات الحكم العربية تحسباً وتحفظاً، وبالتالي فإن استنتاج الموقف الرسمي حيال التغيرات الإقليمية والدولية يصبح عملاً صعباً من دون تحليل ما يرشح في المعالجات الصحافية وكتابات المعلقين والمحللين السعوديين والعرب، المرتبطين بشكل أو بآخر بدوائر الحكم في الرياض.سأجازف في هذا المقال وأقدم رصداً وتحليلاً سريعاً لعدد من التغيرات التي ظهرت في بعض المنابر الإعلامية المهمة في هذا الصدد.أولاً: يظهر ارتباك وتضارب واضحين في تحليل تداعيات الاتفاق النووي الإيراني الأخير، حول ما إذا كان يمثل «انتصاراً لإيران وبداية لحقبة توسع فارسية»، أو «تقليماً لأظافر إيران وهزيمة لمشروعها النووي».ثانياً: يبرز في صدد الملف الإيراني تحليل متماسك مفاده أن «مشكلات كبيرة ستنشأ عن الاتفاق، بعضها يأتي من إطلاق يد إيران في المنطقة، بما يعنيه هذا من ضغوط على السعودية والأمن الخليجي».ثالثاً: تبرز مرارة واضحة من زيارة وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف الأخيرة لبعض دول الخليج العربية والعراق، وما صدر من تصريحات خلالها، وجه خلالها ظريف «انتقاداً مبطناً للسعودية واستهدافاً لها»، بوصفها «لا تتخذ خطوات إيجابية في إطار التعاون والاستقرار»، وقد عبر بعض الكتّاب السعوديين في هذا الصدد عن استغرابهم من الزيارة والتصريحات التي قيلت على هامشها.رابعاً: راح بعض الكتاب يطرح ضرورة أن تتفاعل السعودية مع التطورات الجديدة التي تشي بـ»عدم اتساق الموقف الخليجي حيال العنصر الإيراني»، بما فيه هذا من إمكانية النظر في تطوير مجلس التعاون لدول الخليج العربية، عبر توسيعه بـ»ضم دولة مثل الأردن» إليه.خامساً: تظهر افتتاحيات وتعليقات عديدة في الصحف السعودية، الصادرة في الداخل أو الخارج، تتناول المواقف التركية الأخيرة بشكل سلبي؛ سواء في ما يتعلق بالدور الإقليمي أو بالضغوط والتحديات الضخمة التي تواجه إردوغان.سادساً: معالجة الزيارة التي قام بها ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى مصر، يوم الخميس الماضي، باعتبارها «زيارة تاريخية»، و«صفعة للمشككين في استراتيجية العلاقات السعودية- المصرية».سابعاً: احتفاء كبير بـ«إعلان القاهرة» الصادر عن تلك الزيارة، وهو الإعلان الذي يعد بمنزلة «إعادة تأسيس للعلاقات بين السعودية ومصر، إذ تضمن تحديداً لمجالات العمل المشترك على صعد الاستثمارات، والقوة العربية المشتركة، والبقاء سوياً في مواجهة التحديات والتهديدات».ثامناً: التركيز على مقولة السيسي على هامش زيارة ولي ولي العهد السعودي عن أن «الشعوب العربية لن ترانا إلا معاً»، ومقولة الجبير التي أكد فيها أن الجانبين سيبذلان كل ما بوسعهما لـ«تطوير العلاقات»، بما فيها «القوة العربية المشتركة».تاسعاً: توقف شبه تام للمقالات والتحليلات التي كانت تنتقد النظام الجديد في مصر، وتطرح أفكاراً حول ضرورة «فتح خطوط مع تنظيم (الإخوان) الدولي»، بدعوى أنه «مكون سياسي في أكثر من بلد عربي يجب عدم تجاهله».إن تلك التغيرات في الخطاب الإعلامي السعودي، والتي يمكن ببساطة اعتبارها إشارات واضحة إلى توجه سياسي سعودي رسمي، تأتي في ظل تطورات مثيرة تجري في مصر.ففي 6 أغسطس الجاري، سيشهد العالم حفل افتتاح «قناة السويس الجديدة»، التي يعول عليها المصريون كثيراً في تحقيق نهضة اقتصادية وقفزة تنموية، تسهم في تجاوز البلاد أزماتها الاقتصادية والاجتماعية، وتكرس شرعية النظام، وتعزز الثقة العامة داخلياً وخارجياً به.وبموازاة ذلك، شهد يوم الخميس الماضي نفسه إعلان الولايات المتحدة الأميركية تسليم مصر ثماني طائرات «إف 16 بلوك 52» متطورة، يتلوها تسليم أربع طائرات أخرى من الطراز ذاته في الخريف المقبل، والأهم من ذلك تأكيد واشنطن استمرار الدعم العسكري للقاهرة، والمقدر بنحو 1.3 مليار دولار لهذا العام، في سياق «دعم قدرات مصر لمحاربة الإرهاب».وفي حضور الأمير محمد بن سلمان، لحفل تخريج دفعات جديدة من بعض الكليات العسكرية المصرية، حرص السيسي أيضاً على تأكيد إجراء الانتخابات البرلمانية قبل نهاية العام الجاري، لينجز بذلك الاستحقاق الثالث والأخير من «خريطة طريق المستقبل»، التي دعمتها السعودية، حين وضعت كل ثقلها خلف «مسار 30 يونيو» في مصر، الذي عُزل بمقتضاه الرئيس الأسبق مرسي، وأُنهي حكم «الإخوان» في مصر.تفيد تلك التطورات مجتمعة أن مصر استعادت أهليتها الإقليمية والدولية كاملة، وباتت تحظى بثقة واشنطن والمجتمع الغربي (الرئيس الفرنسي هولاند أعلن مشاركته في حفل افتتاح قناة السويس الجديدة)، بما يتضمنه هذا من تعويل كبير على دورها في «محاربة الإرهاب».وتشير تلك التطورات أيضاً إلى أن السعودية «القلقة والمتحسبة» من الاتفاق النووي الإيراني، والمنزعجة من بعض المواقف الخليجية غير الواضحة والقاطعة في «الاصطفاف» ضد «التربص الإيراني»، وغير المعولة على «العنصر التركي» في الترتيبات الإقليمية الجديدة، تعيد تأسيس علاقاتها مع مصر على أسس جديدة.يتضمن ذلك بالطبع تجاوز فترة «التشكيك» و«الغموض»، التي دفعت البعض إلى الاعتقاد أن ثمة تغيراً فارقاً في السياسة التي تبناها العاهل السعودي الراحل الملك عبدالله حيال مصر، وهي السياسة التي جسدت مساندة قوية وسخية لإرادة القطاعات الغالبة من المصريين، ومواجهة متكاملة مع تنظيم «الإخوان».ويمكن الآن توقع تفعيل للخط السياسي الذي أظهرته زيارة ولي ولي العهد السعودي لمصر، خصوصاً أن تلك الزيارة تجسدت في اتفاق واضح (إعلان القاهرة)، وشهدت الإعلان عن توجيه الدعوة للعاهل السعودي الملك سلمان لزيارة مصر.يأخذنا هذا إلى مشهد سياسي واضح، تضع فيه السعودية ثقتها في حليفها المصري، كعمق استراتيجي ولاعب رئيس في مواجهة التحدي الإيراني، ويطمئن خلاله المصريون إلى استمرار المساندة السعودية لمسار «30 يونيو».* كاتب مصري
مقالات
العلاقات السعودية - المصرية تتجاوز أزمتها
02-08-2015