أحزان القصيدة العربية على شواطئ «سيت» الفرنسية

نشر في 17-08-2015
آخر تحديث 17-08-2015 | 00:01
وصلنا مبكراً إلى مدينة «سيت»، جنوب فرنسا، المعروفة باسم «جنة الشعراء». تقيم المدينة سنوياً احتفالاً شعرياً كبيراً، يحضره نحو مئة من شعراء العالم، كنتُ واحداً منهم، في دورة العام الحالي 2015، من مهرجان «أصوات شعرية حية» (أقيم بين 24 يوليو وأول أغسطس الجاري) تخليداً لذكرى الشاعر الفرنسي الكبير بول فاليري، ابن المدينة.
 كان من حسن حظي أن أصل إلى «سيت» مبكراً، من بلاد لا تزال الحروب لغتها الأم والشعر عدوها الألد، ربما كي أرى بأم عيني وأتفحّص في الثقافة الفرنسية، ما افتقدته دائماً في الثقافة العربية، من اهتمام يصل إلى حد الإنفاق الباذخ، على الشعر عموماً، وعلى قصيدة النثر منه، على وجهِ الخُصوص.

دخلت المدينة الواقعة في جنوب فرنسا، جائعاً إلى الشعر والتأمّل، ووجدتُ نفسي بعد عدة أيام محاطاً بقصيدةٍ واحدةٍ كبيرة، يتقارب فيها الشعر والموسيقى والمسرح والحكي والترجمة، كما تتقارب فيها اللغات من الفرنسية إلى الإنكليزية والعربية، ويتقارب فيها الفنانون من الشرق والغرب، كلهم جاؤوا إلى هنا ليمارسوا إبداعهم الفني، من دون أية قيود، إلى جمهور مثقف، أراد أن يقضي ليالي مصيفه السنوي في أحضان الشعر والموسيقى، وأنفق من جيبه الخاص، ثمن ما سيستمع إليه من شعر، راغباً في الاستماع إلى الفن، حتى وبالذات وهو في المصيف.

هبطنا من الطائرة إلى قطار سريع ومريح، ينطلق من مطار شارل ديغول في العاصمة الفرنسية باريس إلى {سيت} في الجنوب، فبت أغفو في القطار متعباً كمن يتجول مفرده بين زمنين مختلفيْن، من حر القاهرة إلى نقاء الجو الفرنسي. كنتُ متعباً في حقيقة الأمر من التناقضات المريعة، التي يمكن أن تراها في يوم واحد، بيننا وبينهم، في النظام والحياة وحتى في الحب. التناقضات بين القطارات التي لنا وتلك التي لهم. نمت جالساً في القطار المكيف، كأنني لم أحتمل الفارق الرهيب بين قطارات {العبيد} في العالم الثالث وقطارات البشر. غفوتُ كعادتي في قطارات الضواحي المصرية، قرب النافذة، وفي حلقي حسرة النظر في روعة الريف الفرنسي. طوال ست ساعات بين باريس و{سيت}، في الجنوب، كان المنظر رائعاً وسط خضرة لا تريد أن تنتهي، بعض بقرات {لافاش كيري}، كانت تقف في مجموعات نادرة، كما في إعلانات الجبن الفرنسي، لكن الأفق كان متسعاً، كأنه لا يريد أن ينتهي.

دقة التنظيم

دخلت المدينة الفرنسية «سيت» نائماً، حيث أيقظني صديقي الشاعر المصري الكبير أمجد ريان، الذي سبق أن دعي إلى المهرجان ذاته العام 2005، حين كان يُقام في مدينة «لوديف»، وهو قال إنه لا يعرف الفرنسية مثلي، لكنه زار البلد سابقاً، وبالتالي فإنه قد يدرك ما لا يدركه زائر المرة الأولى، مثلي طبعاً، وأنا وافقته على صحة ذلك.

من اللحظة الأولى، كان الفضول يقتلني وأنا أخطو خارجاً من محطة القطار الخاصة بـ {سيت}، تلك المدينة التي تطل على ساحل المتوسط، كيف سيكون تنظيم هذا الحشد الكبير من الشعراء والنقاد والمترجمين والموسيقيين والمسرحيين، كيف يعيشون ويتنقلون وينامون ويذهبون إلى ندواتهم، كيف يخرج الجميع منتصراً في النهاية، خصوصاً أن كل هؤلاء يتم الإنفاق على إقامتهم من مكتب إدارة المهرجان، وبينما وقف أحد موظفي المهرجان بلافتة في يديه تحمل الشعار، داخل محطة القطار، في تمام الساعة الحادية عشرة والنصف مساء، كنت أتلقى أول إجابة موضوعية عن سؤالي بشأن دقة التنظيم.

ظل السؤال عن التنظيم مفتوحاً طوال الأيام العشرة للمهرجان، حيث مثل كل يوم إجابة مقنعة جداً عن السؤال، من دون وجه للمقارنة مع تنظيم المهرجانات الكبرى في العالم العربي، الذي يتسم، في نموذجه المصري على الأقل، بنوع نادر من الانحياز إلى منطق {الشللية} في اختيار الضيوف والمشاركين، والعشوائية في التنظيم، مع الفارق بين استجابة الجمهور الفرنسي الرائع في غالبية الندوات، والغياب المصري الشامل عن ندوات الشعر بالذات.

في {سيت} الفرنسية تستطيع أن تقول إن نحو خمسين ألفاً من الجمهور شاركوا بالاستماع إلى العشرات من ندوات المهرجان، كذلك شَهد سوق الكتاب الذي أقامه المهرجان، بمشاركة عدد مهم من دور النشر الفرنسية والأجنبية رواجاً لاحظه الجميع، أتاح للشعراء المدعوين إمكانية العثور على ناشرين فرنسيين وأوروبيين، لمجموعاتهم الشعرية. وتنشر إدارة المهرجان كل عام {أنطولوجيا} تضم قصيدة وترجمتها الفرنسية لجميع الشعراء المدعوين، بالتعاون مع دار {برونو دوسيه} الفرنسية المعروفة، بالإضافة إلى نشر خمس مجموعات شعرية، كان للشاعرين اللبناني بول شاوول والتونسي عبدالوهاب الملوح، حظ نشر مجموعة لكل منهما باللغة الفرنسية.

تسلمت برنامج الندوات الخاص بي، ندوة كل يوم بعضها في الساحات العامة والحدائق والمتنزهات، وبعضها في المراكب العائمة، وبعضها قرب الكنيسة التي يعلوها تمثال العذراء مكللاً بتاج فوق الرأس، بعضها ليلي وبعضها في النهار. كنا نستقل حافلة في الصباح إلى مقر مكتب الإدارة ومنه نتوجه بصحبة متطوعين إلى ندواتنا. كان ذلك أمراً عادلاً فباستثناء الشعراء كبار السن، كنا جميعاً متساوين في عدد الندوات وفي توقيتاتها وفي برنامج المهرجان المطبوع على هيئة كتاب فاخر، كان لكل شاعر صورة وتعريف وتوضيح بأماكن قراءاته الشعرية ومواعيدها بدقة، بعد يوم من بدء المهرجان، كان طبيعياً أن يستوقفك مواطن فرنسي في الشارع، ليقرأ لك في برنامج المهرجان ما كتب من تعريف لك بجوار صورتك، مبتسماً لأنه صادف شاعراً من مصر.

مرارات عربية

كانت أيام المهرجان فرصة لا تعوَّض للقاء عدد كبير من الشعراء والأصدقاء العرب، والذين لا تتسع البلاد العربية للقاءاتهم على أراضيها، كونها بلاد تسيطر عليها حكومات طاردة للشعر وخائفة من الشعراء. كان في الأرض الفرنسية متسع للجلوس إلى الشعراء: صالح دياب وعمر قدوري ومرام المصري (سورية)، طالب عبدالعزيز (العراق)، وإبراهيم الحسيني (السعودية)، وعزيز أزغاي وعبدالرحيم الصايل (المغرب)، وليد السويركي (فلسطين) ومها عتوم (الأردن)، وفاطمة محمود (ليبيا)، ومحمد الغزي وعبدالوهاب الملوح (تونس)، وغيرهم الكثيرون.

اقتربتُ من شعراء عرب كثيرين، كنا أصدقاء في الواقع الافتراضي فقط، والآن وهنا بالذات، بات بإمكاننا أن نتأمل تجاربنا عن قرب، وأن نتعاطى الشعر بعيداً عن سخافات الإدارات الثقافية العربية وأمراضها المزمنة، عرفت قصائد صديقي الشاعر المصري الكبير أمجد ريان، أحد أبرز شعراء جيل السبعينيات، والذي أعلن تمرده تماماً على كل مقولات الحداثة الشعرية، راجعاً إلى البساطة في التعبير والأسلوب بعيداً عن تعقيدات القصيدة الرمزية، أمجد ريان، كان أكبر مكسب لي في هذه الزيارة، فهو طاقة شعرية هائلة لديه أكثر من 15 ديواناً بدأها منتصف السبعينيات، وأهداني ديوانيه الأخيرين، وأهديته ديواني، وتعارفنا من جديد على الأرض الفرنسية.

مع الأسف، كان في الأرض الفرنسية مُتسع للشعراء العرب، طوال عشر ليال، للاستماع إلى مرارات الأيام العربية، في المجالات كافة، من أقصى السياسة إلى آخر سطر شعري يكتب في الأرض العربية، من حكم صدام حسين في العراق، الذي أعدم من بين الآلاف الذين أعدمهم، شقيق صديقنا الشاعر العراقي طالب عبدالعزيز، الذي كان يتذكر المرارات وفي عينيه طاقة هائلة من السخرية. قال إنه لا يتوقف عن سب كل من يصادفه في الشوارع العربية، التي زارها جميعاً تقريباً، وتحفل بكثير من السفهاء، على حد قوله، ممن يلتقون به مصادفة ويعرفون أنه عراقي، ويقولون له مهللين إنه من بلد صدام حسين الزعيم العربي الذي قاوم الاستعمار الأميركي. لكن الشاعر طالب عبدالعزيز، السني من {البصرة}، لا يرى سبيلاً للرد على هؤلاء إلا بسبِّهم. يقول ذلك، ثم يدخل في موجة من الضحك.

حكى طالب بمرارة عن العراقي اليهودي ساسون حزقيال الذي بنى الاقتصاد العراقي في الثلاثينيات، وعن الشاعر العربي الكبير محمد مهدي الجواهري، الذي كتب قصيدة في هجاء صدام حسين حين حرمه من الجنسية العراقية، قائلاً: {سل مضجعيك يا ابن الزنا.. أأنت العراقي أم أنا؟}. حكى طالب عن مشروع دولة مدنية محترمة في العراق، أجهضها البعثيون، لدرجة أن نظام صدام كان يقتل المعارضين، بدم بارد، وحين يترفق بحال أسرة معارض قتله برصاص ميري، كان يدق على باب الأسرة المحظوظة، ويقول لأبيه: خذ هذه الجيفة مالتك {التي تخصك} وأعطنا ثمن الرصاصة التي قتلناه بها.

كان في الأرض الفرنسية متَّسع للقاء الشاعرين من المغرب عزيز أزغاي وعبدالرحيم الصايل. كانا أقرب الشعراء العرب إلى اللغة الفرنسية، مع أصدقائنا التوانسة والجزائريين، كونهم كانوا عاشوا تحت الاحتلال الفرنسي لأزمان طويلة. حكى عبدالرحيم الصايل، أنه بات يخشى على شعره من تلك المسافة الهائلة بين ما نكتبه من مفردات في أشعارنا، وما نعنيه في حقيقة الأمر. قال إن ثمة معاني عربية لا يجد لها المرء معادلاً في الواقع الأوروبي. قال عبدالرحيم وهو محق، إن بعض المفردات في قصائدنا، قد لا يجد له صدى في قلوب الفرنسيين، لأنه في حقيقة الأمر لا يعني لهم شيئاً، مثل مفردة المستشفى في قصيدة له، قال إنه حين ألقاها على الجمهور الفرنسي، اكتشف أن الأخير يدرك أن المستشفى هي ذاك المكان الفاخر، وأنه لا يستطيع على الإطلاق فهم دلالات «المستشفى» التي تحمل الصورة العربية المزرية، على نحو ما جاء في القصيدة.

back to top