في الثانية والثمانين من عمره كان بين خيارين، إما أن يواجه سكين "داعش" ونحره أو أن يدله على أهم كنز أثري في تدمر. يختار الشيخ خالد الأسعد أن يواجه مصيره ويرفض أن تنهب آثار مدينته التي عمل نصف قرن من عمره على الحفاظ عليها واكتشاف اسرارها.
ما تداولته الصحف العربية والأجنبية هو أن "داعش" كان يبحث عن ما يسمى "مخزن الذهب" الذي يعرف الرجل سره ويفضل أن يضحي بحياته من أجله. ومنذ مايو الماضي حين استولى "داعش" على المدينة من القوات السورية النظامية عمد إلى بيع هذه الآثار لتمويل رجاله وسلاحه في المنطقة الشاسعة التي يسيطر عليها في العراق وسورية.وما يستولي عليه "داعش" هنا ليس مالا أو نفطا أو مخزونا من الغاز، انما تاريخ كامل لا ينتمي الى سورية النظام أو سورية الحكم القادم، بل هو تاريخ يعود الى عشرين قرنا من الزمان ويمثل الحضارة الأهم في الشرق الأوسط.حدث هذا في تدمر وحدث مثله في العراق، جرافات تكتسح آثار المدن التي عاشت منذ بدء الاسلام مرورا بالخلفاء الذين أداروا البلاد والدول التي امتدت كل هذه السنين. فهل اسلام "داعش" أنقى وأزكى من عصور الدولة الاسلامية؟ بالتأكيد الاجابة لا. ما يحدث ويثير الريبة في أعمال هؤلاء المارقين الذين شوهوا كل معنى جميل للحضارة الاسلامية والحضارات التي سبقتها هو ابادة للوجه الحضاري الذي تمثله هذه المدن التاريخية تحت ذريعة أنها أصنام يجب تحطيمها، وكأنها مدن ظهرت فجأة كما هو تنظيم داعش "دولة الاسلام الجديدة".الحقيقة التي لن يعترف بها "داعش" يعرفها المتابعون في الغرب والشرق وهي أن تلك الآثار تنهب وتباع لجهات لا نعلمها الآن، ولكننا سنراها مستقبلا في متحف ما دون أن نتمكن من استردادها، ونحن الذين فشلنا في المحافظة عليها. كانت الأخبار أيضا تشير الى أن ما حدث في العراق من قبل هو تحطيم مجسمات وهمية لتماثيل مشابهة للأصل، ونقل النسخ الأصلية الى جهة ما، جهة تعرف "داعش" ويعرفها "داعش" جيدا.الفرق بين خالد الأسعد و"داعش" أن الأول قدم حياته التي شارفت على الرحيل بسلام ليقطع رأسه ويمثل بجثته بطريقة وحشية في قلب مدينته التي عمل على اكتشاف كنوزها كل هذا العمر من أجل المستقبل، أيا كان المستقبل، والثاني قدم وحشيته وعداءه للحضارة ليجني مالاً مقابل آثار بلاده، ويقدم صورة مرعبة للمسلم الذي يطمح الى انشاء دولة يبدأها ببداية كهذه مفزعة ومنفرة.سيبقى السؤال الغامض والمر هو: ماذا لو وصل "داعش" الى بقية الدول التي يطمح في الوصول اليها لانشاء خلافته؟ ستتخلص بالتأكيد من كل أثر حضاري وستجري الأنهار بالحبر الذي يضم مؤلفاتنا التاريخية التي لا يقرأها "داعش"، سيتخلص من رموزنا العلمية والتنويرية التي لن يتمكن من بيعها لأحد.ولأننا صامتون حتى الآن، ولا نستطيع الدفاع عن حضارتنا، فسنرى مزيدا من الرؤوس التي عملت في كل أرض يجتاحها معلقة على الأعمدة. وسننتظر حتى يقرر السيد في البيت الأبيض ماذا يجب علينا أن نفعل!سيخلف هذا المحو دمارا للانسان الجديد الذي لم يتم بناؤه بعد قبل أن يدمر الحجر الذي بناه أسلافه والذي يدل على ماضيه وتاريخه وأزهى أيامه. سيتلاشى الحجر لنجد انفسنا عراة من كل شيء، كل شيء.
توابل - مزاج
المحو
23-08-2015