العقدة السورية

نشر في 07-12-2015
آخر تحديث 07-12-2015 | 00:01
في نهاية المطاف ستدور رحى المعركة الحاسمة ضد المتطرفين المتأسلمين داخل المجتمع السُنّي، ولكن أي شكل من أشكال الإسلام السُنّي ستكون له الغَلَبة- النسخة السعودية أم نسخة أخرى؟ هذا هو السؤال الحاسم في القتال ضد «داعش» وأمثاله.
 بروجيكت سنديكيت على مدار أربع سنوات، دارت رحى حرب دامية في سورية، لقد تطورت الأحداث التي بدأت كانتفاضة ديمقراطية ضد دكتاتورية بشار الأسد إلى مجموعة متشابكة من الصراعات، والتي تعكس جزئياً الصراع الوحشي بالوكالة بين إيران، وتركيا، والمملكة العربية السعودية على الهيمنة الإقليمية، وكما أظهر القتال في اليمن، ينطوي هذا الصراع على إمكانية زعزعة استقرار المنطقة بالكامل، والآن تسعى روسيا، من خلال تدخلها العسكري لمصلحة الأسد، إلى تعزيز مكانتها بوصفها قوة عالمية في مقابل الغرب (والولايات المتحدة بشكل خاص).

وبالتالي فإن الصراع في سورية يجري على ثلاثة مستويات على الأقل: المحلي، والإقليمي، والعالمي، وبسبب السماح للتناحر هناك بالتفاقم والانتشار، قُتِل نحو 250 ألف إنسان، وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، وقد أعلنت وكالة الأمم المتحدة للاجئين هذا الصيف أن عدد اللاجئين الذين فروا من سورية بلغ أربعة ملايين، بالإضافة إلى 7.6 ملايين نازح داخليا، ومن ناحية أخرى تحول تدفق اللاجئين السوريين إلى أوروبا إلى واحد من أعظم التحديات التي واجهت الاتحاد الأوروبي على الإطلاق.

كما تحولت الحرب الأهلية الدائرة في سورية إلى واحدة من أخطر الأراضي الخصبة لتوليد الإرهاب المتأسلم، كما أظهرت الهجمات التي شنها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في أنقرة، وبيروت، وباريس، فضلاً عن تفجير طائرة ركاب روسية فوق شبه جزيرة سيناء، وعلاوة على ذلك تسبب إسقاط تركيا لطائرة حربية روسية في تعظيم الخطر المتمثل بانجرار القوى الكبرى إلى الاقتتال بشكل مباشر، ذلك أن تركيا بوصفها عضواً في حلف شمال الأطلسي، مؤهلة للحصول على مساعدات عسكرية من الحلف في حال تعرضها للهجوم.

ولا مناص، لكل هذه الأسباب، من إنهاء الحرب في سورية في أسرع وقت ممكن، فليس الأمر أن المأساة الإنسانية هناك تتفاقم بمرور كل يوم تقريباً فحسب؛ بل تتعاظم أيضاً المخاطر الأمنية الناجمة عن الحرب.

في أعقاب الهجمات الإرهابية التي شهدتها باريس في الثالث عشر من نوفمبر، نشأت فرصة جديدة لإنهاء معاناة سورية، لأن اللاعبين المهمين كافة (باستثناء داعش) أصبحوا الآن على استعداد للجلوس معاً إلى طاولة المفاوضات، ولكن رغم اتفاق كل الأطراف على محاربة "داعش" أولاً وقبل كل شيء، فيظل السؤال الأكبر القائم الآن هو ما إذا كانت عازمة حقاً على القيام بذلك.

يُعَد الأكراد في شمال سورية والعراق المقاتلين الأكثر فعالية ضد "داعش"، غير أن طموحاتهم الوطنية تضعهم في خلاف مع تركيا، وتخوض كل من إيران والمملكة العربية السعودية الحرب ضد الأخرى في المقام الأول لأسباب تتعلق بالهيمنة الإقليمية، اعتماداً على جماعات لا تنتمي إلى دولة بعينها، وتقاتل روسيا سعياً إلى ترسيخ مكانتها العالمية وضد أي شكل من أشكال تغيير النظام.

وبالتالي، تجد روسيا نفسها متحالفة مع إيران في دعم دكتاتورية الأسد، في حين تلاحق إيران بدورها مصالحها الجيوسياسية الخاصة من خلال دعم حليفها الشيعي في لبنان، حزب الله، الذي يشكل الظهير السوري بالنسبة إليه أصلاً لا غنى عنه. وقد أصبحت فرنسا أكثر جدية من أي وقت مضى بشأن مكافحة تنظيم "داعش"، في حين تشعر ألمانيا وغيرها من بلدان أوروبا بأنها ملزمة بمساعدتها، ووقف تدفق اللاجئين القادمين من المنطقة.

ومن ناحية أخرى، تتحرك الولايات المتحدة بحذر شديد، حيث يريد الرئيس باراك أوباما في المقام الأول تجنب توريط الولايات المتحدة في حرب أخرى في الشرق الأوسط قبل نهاية ولايته، ولكن مع بقاء القوة العالمية الرئيسة على الهامش، كانت النتيجة الحتمية نشوء فراغ قوة بالغ الخطورة، والذي يسعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى استغلاله.

ولأن الولايات المتحدة ترفض تولي القيادة، وأوروبا أضعف على المستوى العسكري من أن تتمكن بمفردها من التأثير على التطورات العسكرية في سورية، فليس من المستبعد أن يتحقق الخطر المتمثل بنشوء تحالف بحكم الأمر الواقع بين أوروبا وروسيا بوتين، وهو خطأ فادح لأن أي نوع من التعاون مع روسيا لن يحتوي أو ينهي الحرب في سورية. في الواقع، هناك من الأسباب ما يجعلنا نخشى أن العكس هو الصحيح: ذلك أن أي تعاون عسكري مع الأسد- وهو هدف بوتين- من شأنه أن يدفع غالبية كبيرة من السُنّة المسلمين إلى أحضان المتأسلمين المتطرفين.

ويتجلى هذا الاتجاه بوضوح في العراق، فقد لعبت حكومة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي التي هيمن عليها الشيعة دوراً حاسماً في دفع العراقيين السُنّة إلى التطرف وإقناعهم بدعم "داعش"، ومن الغباء الشديد أن نكرر الخطأ نفسه عمداً في سورية، والواقع أن إبرام مثل هذه الصفقة لا علاقة له بالسياسة الواقعية، لأن الحرب في سورية من غير الممكن أن تنتهي مع بقاء داعش أو الأسد في الصورة.

ينبغي لأي تعاون غربي مع روسيا أن يتجنب نتيجتين: الربط بين سورية وأوكرانيا (فقد نجحت المفاوضات مع إيران بشأن الحد من برنامجها النووي دون مثل هذا الربط) والتعاون العسكري مع الأسد، وبدلاً من ذلك لابد من محاولة ربط التدخل العسكري ضد "داعش"، تحت رعاية مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بالتوصل إلى اتفاق بشأن عملية الانتقال السياسي التي تبدأ بالهدنة وتنتقل إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية لسورية وإنهاء نطام الأسد.

لا يخلو الأمر من تحديات أخرى كبيرة تلوح في الأفق بعيداً عن سورية: ذلك أن انزلاق العراق إلى الفوضى، وارتباطه الوثيق بالمأساة السورية، يهدد بتحويله إلى مسرح جديد للصراع بين إيران والمملكة العربية السعودية، وما لم يتم احتواء هذا العراك لفرض هيمنة إقليمية، فسوف تندلع حتماً حروب أخرى بالوكالة، مع كل المخاطر التي ينطوي عليها ذلك.

في نهاية المطاف ستدور رحى المعركة الحاسمة ضد المتطرفين المتأسلمين داخل المجتمع السُنّي، ولكن أي شكل من أشكال الإسلام السُنّي ستكون له الغَلَبة- النسخة السعودية أم نسخة أخرى؟ هذا هو السؤال الحاسم في القتال ضد داعش وأمثاله. وفي هذا السياق، يتمثل أحد العوامل المهمة بالكيفية التي يتعامل بها الغرب مع مسلميه، كمواطنين مرحب بهم ومتساوين مع غيرهم من المواطنين في التمتع بالحقوق والالتزامات، أو غرباء دائمين وذخيرة لمجندي الجهاديين.

* يوشكا فيشر كان وزيراً لخارجية ألمانيا ونائباً لمستشارها في الفترة من 1998 إلى 2005، وكان قيادياً بارزاً في حزب الخُضر الألماني لما يقرب من العشرين عاما.

«بروجيكت سنديكيت- معهد العلوم الإنسانية» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top