لا اعتراض إطلاقاً على أن تبادر إيران إلى "لفلفة" الخطأ الفادح الذي ارتكبته بالاعتداء على سفارة المملكة العربية السعودية في طهران وقنصليتها في مشهد، بل إن هذا مطلوب وضروري، فالتراجع عن الخطأ فضيلة، لكن من المفترض أن يكون هذا التراجع، إن كان سيتم فعلا، بداية لمراجعة فعلية وحقيقية للسياسات التي بقيت تنتهجها طهران، منذ انتصار ثورتها في عام 1979 وقبل ذلك وحتى الآن، بالتدخل السافر في الشؤون الداخلية للدول العربية القريبة والبعيدة وزعزعة الاستقرار في هذه الدول، بل واحتلال بعضها على غرار ما هو جار الآن في سورية والعراق.

Ad

 كل العرب يريدون ويسعون أيضاً إلى علاقات حسن الجوار مع إيران، التي من المفترض أنها دولة "شقيقة" تربطهم بها مصالح مشتركة كثيرة وتاريخ طويل لم يتوقف حتى بعد ظهور الدولة الصفوية قبل نحو 500 عام، وبعد القبول بالفتوى التي أصدرها الشيخ اللبناني علي الكركي (نسبة إلى بلدة كرك نوح في جبل عامل) بالنسبة لـ "ولاية الفقيه"، لكن المشكلة أن العلاقات بين الدول تتطلب رغبتين وإرادتين، وأن الرغبة العربية في هذا المجال لا تكفي ولا قيمة لها إن لم تكن هناك رغبة إيرانية، والمعني هنا في هذه المرحلة هو مرشد الثورة علي خامنئي، وهو حارس الثورة، والهيئات الأخرى التي تعتبر شريكاً رئيساً في القرارات التاريخية "الاستراتيجية".

 حتى الآن فإن "التملص" من الاعتداء الآثم على السفارة السعودية في طهران والقنصلية في مشهد لا يمكن فهمه إلا على أنه مناورة لامتصاص غضب الرأي العام الدولي، ولتفادي المزيد من الشجب والاستنكار لـ "فعلة" بائسة وسيئة لا يمكن تصديق أن الذين ارتكبوها في وضح النهار عبارة عن مجموعة من "الزعران" و"الغوغاء"، فهذه كذبة قد تنطلي على الذين لا يعرفون إيران ولا يعرفون أنها دولة "بوليسية"، وأن استهداف البعثات الدبلوماسية فيها لا يمكن أن يتم من دون قرار مركزي من صاحب القرار في دولة الولي الفقيه، وهو القائد الأعلى للدولة ولحراس الثورة... ولكل شيء.

 إن المشكلة في إيران لم تبدأ باستهداف سفارة السعودية في طهران واستهداف قنصليتها في مشهد، إنها بدأت بعد انتصار الثورة عام 1979 مباشرة، بل قبل ذلك عندما احتل الشاه السابق محمد رضا بهلوي الجزر الإماراتية الثلاث: "طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى"، وعندما وصل تحرشه بمملكة البحرين إلى حد الادعاء بأنها جزء من امبراطوريته الشاهنشاهية، ولذلك ومع ضرورة الترحيب بالتراجع عن هذا الخطأ الأخير، هذا إذا كان هناك تراجع بالفعل، فإنه لابد من تذكير "الأشقاء" الإيرانيين ببيت شعر عربي من المفترض أنهم يعرفونه يقول:

لا تقطعن ذنب الأفعى وترسلها     ...        إن كنت شهماً فاتبع رأسها الذنب

 نحن الآن بحاجة إلى ما هو أكثر كثيراً من هذه الألاعيب والمناورات، فالعلاقات العربية – الإيرانية متورمة بإشكالات ومشاكل كثيرة، ولهذا فإنه لابد من البدء بطي هذه الصفحة الحالية والبدء بفتح صفحة جديدة، وهذا يتطلب أن تبادر إيران إلى اتخاذ موقف عقلاني وشجاع، وتبدأ فوراً بوضع حد لتدخلها السافر في الشؤون الداخلية العربية، وأول خطوة في هذا المجال هي: "كف شرها" عن اليمن، وهي الانسحاب العسكري، ولو تدريجياً، من سورية ورفع يدها عن العراق والمباشرة بالخطوة الأولى من وقف ادعاءاتها الباطلة في البحرين، وإبداء الاستعداد الفعلي للبدء بحل مقبول ومعقول لاحتلال الجزر الإماراتية التي احتلها الشاه السابق بالقوة العسكرية.

 وهكذا فإنه لا يمكن بغير هذا أن تكون هناك العلاقات العربية – الإيرانية المفترضة المطلوبة القائمة على حسن الجوار وعلى عدم التطلع وراء الحدود وعلى المصالح المشتركة والتاريخ المشترك.

إن "لفلفة" العدوان الرسمي الآثم على السفارة السعودية في طهران وعلى قنصليتها في مشهد قد تكون معقولة، لكن بشرط أن تكون الخطوة الأولى على طريق الألف ميل، فالمنغصات بين العرب والإيرانيين كثيرة، وفي مقدمتها هذا التدخل العسكري و"الميليشاوي" في سورية والعراق واليمن، وهو هذا "التحرش" المتواصل بالبحرين، وهو الكره الذي يدرس في المدارس الابتدائية الإيرانية للعرب وحضارتهم، وإنكار أي دور إيجابي في المسيرة الإنسانية، وهو هذا الاحتلال الذي لا يمكن السكوت عنه للجزر الإماراتية.