يحتفل العالم بيوم التسامح الدولي، اليوم 16 نوفمبر، الذي اعتمدته الجمعية العامة سنة 1996، ليكون يوماً للتسامح تحتفل به جميع الدول الأعضاء، من كل عام، تأكيداً على أن "التسامح" وحده، هو الذي يضمن بقاء واستمرار الإنسانية في عالم سمته الأساسية، التعدد والاختلاف والتغير، كأمر ملازم للوجود الإنساني، وسنة كونية لا مناص عنها.

Ad

ما هو مفهوم التسامح؟ هناك مفهوم سلبي يسود لدى بعض الكتاب والمثقفين لمفهوم التسامح، يقوم على لَبْس أو سوء فهم مترسب من المفهوم التراثي القديم لكلمة "التسامح" ترادف معاني العفو عن الخطأ، وغفران الذنب، والتنازل عن الحق، وهي المعاني الأكثر دوراناً ورواجاً في الكتب التراثية، التي تعلل تسامح المسلمين مع أهل الذمة، بـ "الإنعام" و"المنة" و"التفضل"، كما أن التسامح في اللاهوت المسيحي، يعني "الصفح عن مخالفة المرء لتعاليم الدين"، لكن التسامح في مفهومه الحديث تجاوز هذه المعاني التاريخية القديمة، بقيام الدولة الوطنية ووضع الدساتير وإقرار حقوق المواطنة وتصديق كل الدول العربية والإسلامية على مواثيق حقوق الإنسان، ولذلك حرصت الجمعية العامة في إعلانها لمبادئ ومفهوم "التسامح" على تحديد المفهوم تحديداً واضحاً ومحدداً، فالتسامح يعني "احترام حرية الآخر وطرق تفكيره وسلوكه وآرائه السياسية والدينية، وتقدير التنوع الثقافي وقبول مختلف أنماط وأساليب التعبير لدى الجنس البشري، والانفتاح على أفكار الآخرين وفلسفاتهم والإفادة منها، والاعتراف بأنه ليس هناك فرد أو ثقافة أو وطن أو ديانة تحتكر المعرفة والحقيقة"، وبكلمة مختصرة، التسامح يعني "قبول الآخر بما هو عليه من اختلاف في المعتقد والمشرب السياسي"، وهو بهذا المعنى يمثل جوهر حقوق الإنسان، وهذا ما أعلنته منظمة "اليونسكو" في إعلان "المبادئ حول التسامح" باريس 16 نوفمبر 1995. ومن المهم تأكيد أن قبولي للآخر، بما هو عليه من رأي أو معتقد، لا يلزم إقراري بصحة وصواب ذلك الرأي أو المعتقد.

كما حرصت الجمعية العامة - من ناحية أخرى - على نفي جميع المفاهيم السلبية الملتبسة بمفهوم التسامح، فالتسامح لا يعني الشعور باللامبالاة تجاه الآخرين، ولا يستبطن قبول كل المعتقدات وكل أنماط السلوك، دون أي تحفظ، وهو - أيضاً - لا يعني تفريط المرء في معتقداته أو تهاون عزمه، كما لا يحمل التسامح أي معنى من معاني الاستعلاء أو التنازل عن الحق، طبقاً لمقولة "المسامح كريم"، والتي تعني أن الشخص المتسامح أرفع مرتبة من الآخر المتسامَح معه، كونه عفا عنه وتنازل عن حقه.

حاجتنا إلى التسامح

إذا كانت شعوب ودول العالم بحاجة إلى ترسيخ ثقافة التسامح في مجتمعاتها من أجل البقاء والتطور، فالعرب والمسلمون أكثر احتياجاً لغرس وتعزيز هذه الثقافة في بنية مجتمعاتهم التي تسودها ظواهر التعصب والكراهية والعنف والصراعات والحروب وتشريد البشر والتفجيرات الإرهابية التي طالت حتى بيوت الله تعالى الآمنة، إن ديننا دين التسامح، ينبذ العنف والكراهية، ويدعو إلى التعاون والسلام والتعامل بالبر والحسنى، والبشرية في نظر الإسلام، أسرة إنسانية واحدة، لكن المولى تعالى خلقهم مختلفين أجناساً وألواناً ولغات وأدياناً وثقافات وبيئات، ليتنافسوا التنافس الخلاق الذي يتم به إعمار الأرض وتقدم البشرية واكتساب المعرفة وتبادل الخبرات البشرية، ولقد امتنَّ المولى تعالى على البشرية بخلقهم مختلفين، بقوله تعالى " وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ" أي خلقهم ليختلفوا الاختلاف البناء الذي به إعمار الأرض، مؤكداً أنه جل وعلا هو "الحكم الفصل" وحده، في هذه الاختلافات "إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ"، فلا يحق للمسلمين أن يفرضوا معتقدهم على أحد، ولا أن يحكموا على الشعوب العالم بسوء المصير، وليس للمسلمين إلا دعوة واحدة، هي دعوة بالحكمة والموعظة الحسنة لا غير.

تعزيز ثقافة التسامح

 في تصوري أن البداية الحقيقية لتعزيز قيم التسامح تكون من البيت، من الأسرة الصغيرة، في تسامح الأبوين مع بعضهما، ومع الآخرين من الجيران والأصدقاء والمتصلين بالأسرة، في تسامح أفراد الأسرة بعضهم مع بعض، ومع الخدم في البيت، وتمتد تلك الثقافة إلى المؤسسات التعليمية فيكون المعلم نموذجاً متسامحاً هادياً لطلابه ولزملائه، ثم تصعد إلى بقية مؤسسات المجتمع المدني والحكومي بمختلف ألوانها السياسية والثقافية، والإعلامية والاقتصادية والدينية، كما يجب على النخبة المجتمعية ممارسة ثقافة التسامح ونبذ ثقافة التخوين، والتكفير، والتجريح والاتهام، ويحب أن يتحلى المجتمع بتشريع عادل ومنصف لجميع فئات المجتمع، ثم يأتي دور النظام السياسي الذي ينبغي أن يضمن حقوق وحريات الجميع بدون تفرقة.

ختاماً: إن أبرز آليات تفعيل غرس ثقافة التسامح المجتمعي، هو التزام الدولة بالحياد "المذهبي والديني" عبر تفعيل مفهوم "المواطنة" آلية لغرس قيم المحبة والتسامح، إذ لا جدوى من الخطب الوطنية والدينية عن التسامح، ولا حتى النص في الدساتير عليه، إذا كانت تشريعات الدولة تمايز بين المواطنين بحسب معتقدهم الديني أو المذهبي، أو كانت معاملة الدولة تقوم على نوع من التمايز بين المواطنين بسبب معتقدهم أو أصولهم، كما هو السائد في مجتمعاتنا العربية، أو كانت حقائق الواقع المجتمعي وعلاقات الأفراد - بعضهم ببعض - بعيدة عن قيم التسامح.