لما كانت الليلة الرابعة والعشرون، قالت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد أن القاضي قال للغلمان: ما الذي فعله سيدكم حتى أقتله؟ وما لي أرى هذا المزين بين أيديكم؟ فقال له المزين: أنت ضربته في هذه الساعة بالمقارع، وأنا سمعت صياحه. فقال القاضي: ما الذي فعله حتى أقتله؟ ومن أدخله داري؟ ومن أين جاء وإلى من يقصد؟ فقال له المزين: لا تكن شيخاً نحساً، فأنا أعلم الحكاية وسبب دخوله دارك وحقيقة الأمر كله، فبنتك تعشقه وهو يعشقها، فعلمت أنه دخل دارك وأمرت غلمانك فضربوه والله ما بيننا وبينك إلا الخليفة، أو تخرج لنا سيدنا ليأخذه أهله ولا تحوجني إلى أن أدخل وأخرجه من عندكم، وعجل أنت بإخراجه فالتجم القاضي عن الكلام. وصار في غاية الخجل من الناس، وقال للمزين: إن كنت صادقاً فادخل أنت وأخرجه، فنهض المزين ودخل الدار، فلما رأيت المزين دخل، أردت أن أهرب، فلم أجد لي مهرباً، غير أني رأيت في الطبقة التي أنا فيها صندوقاً كبيراً دخلت فيه ورددت الغطاء على، وقطعت النفس، فدخل القاعة بسرعة ولم يلتفت إلى غير الجهة التي أنا فيها، وقصد الموضع الذي أنا فيه وهو يلتفت يميناً وشمالاً فلم يجد إلا الصندوق الذي أنا فيه، فحمله على رأسه فلما فعل ذلك غاب رشدي، ثم مر مسرعاً فلما علمت أنه لن يتركني فتحت الصندوق وخرجت منه بسرعة ورميت نفسي على الأرض فانكسرت رجلي.

Ad

لما توجهت إلى الباب وجدت خلقاً كثيراً لم أر في عمري مثل زحامهم فجعلت أنثر الذهب على الناس ليشتغلوا به، فاشتغل الناس به وصرت أركض في أزقة بغداد وهذا المزين خلفي، وأي مكان دخلت فيه يدخل خلفي وهو يقول: أرادوا أن يفجعوني في سيدي! الحمد لله الذي نصرني عليهم وخلص سيدي من أيديهم لكنك يا سيدي ما زلت مولعاً بالعجلة لسوء تدبيرك حتى فعلت بنفسك هذه الأفعال، فلولا أن وفقك الله إليَّ ما كنت خلصت من هذه المصيبة التي وقعت فيها، وربما كانوا يرمونك في مصيبة لا تخلص منها أبداً، فاطلب من الله أن أعيش لك حتى أخلصك والله لقد أهلكتني بسوء تدبيرك، وكنت يريد أن تروح وحدك ولكن لا نؤاخذك على جهلك، لأنك قليل العقل عجول فقلت له: أما كفاك ما جرى منك حتى تركض خلفي في الأسواق؟

وصرت أتمنى الموت لأجل خلاصي منه، فلا أجد موتاً ينقذني منه فمن شدة الغيظ فررت منه ودخلت دكانا في وسط السوق، واستجرت بصاحبها فمنعه عني، وجلست في مخزن وقلت في نفسي: ما عدت أقدر أن أفترق عن هذا المزين، بل يقيم عندي ليلا ونهاراً، ولم تبق لي قدرة على النظر إلى وجهه، فأرسلت في الوقت  وأحضرت الشهود وكتبت وصية لأهلي، وفرقت مالي، وجعلت إنساناً ناظراً عليهم، وأمرته أن يبيع الدار والعقارات، وأوصيته بالكبار والصغار، وخرجت مسافراً من ذلك الوقت حتى أتخلص من ذلك الثقيل.

ثم جئت إلى بلادكم فسكنتها، ولي فيها مدة فلما عزمت عليَّ وجئت إليكم رأيت هذا القبيح عندكم في صدر المكان، فكيف يستريح قلبي ويطيب مقامي عندكم مع هذا؟ وقد فعل معي هذه الفعال وانكسرت رجلي بسببه؟

كثرة الكلام

امتنع الشاب عن الجلوس، فلما سمعنا حكايته مع المزين قلنا للمزين: أحق ما قاله هذا الشاب عنك؟ فقال: والله أنا فعلت ذلك لمصلحته، ولولاي لهلك، فما سبب نجاته إلا أنا، ومن فضل الله عليه أنه أصيب برجله ولم يصب في روحه، ولو كنت كثير الكلام ما فعلت معه ذلك الجميل، وها أنا أقول لكم حديثاً جرى لي حتى تصدقوا أني قليل الكلام وما عندي فضول من دون إخواني...

قال الحلاق كنت في بغداد في أيام خلافة أمير المؤمنين المنتصر بالله، وكان يحب الفقراء والمساكين ويجالس العلماء والصالحين، فاتفق يوماً أنه غضب على عشرة أشخاص، فأمر المتولي ببغداد أن يأتيه بهم في زورق، فنظرتهم أنا فقلت: ما اجتمع هؤلاء إلا لعزومة، وأظنهم يقطعون يومهم في هذا الزورق في أكل وشرب، وما يكون نديمهم غيري فقمت ونزلت معهم واختلطت بهم، فجلسوا في الجانب الآخر، فجاء لهم أعوان الوالي بالأغلال ووضعوها في رقابهم، ووضعوا في رقبتي غلا مثلهم.فهذا يا جماعة الخير من مرؤتي وقلة كلامي لأني ما رضيت أن أتكلم. فأخذونا جميعاً في الأغلال وقدمونا بين يدي المنتصر بالله أمير المؤمنين، فأمر بضرب رقاب العشرة فضرب السياف رقاب العشرة؟ فقال: وقد بقيت أنا، ولتفت الخليفة فرآني فقال للسياف: ما بالك لا تضرب رقاب جميع العشرة ؟ ضربت رقاب العشرة كلهم.

فقال له الخليفة: ما أظنك ضربت رقاب غير تسعة وهذا الذي بين يديك هو العاشر. فقال السياف: وحق نعمتك إنهم عشرة. قال: عدوهم.. فإذا هم عشرة فنظر الخليفة إليَّ وقال: ما حملك على السكوت في هذا الوقت، وكيف صرت مع أصحاب الدم؟ فلما سمعت خطاب أمير المؤمنين قلت له: اعلم يا أمير المؤمنين أني أنا الشيخ الصامت، وعندي من الحكمة كثير، وأن رزانة عقلي وجودة فهمي وقلة كلامي لا نهاية لها، وصنعتي مزين.

لما كان أمس نظرت إلى هؤلاء العشرة وهم يقصدون الزورق، فاختلطت بهم ونزلت معهم وظننت أنهم في عزومة، فما كان غير ساعة وإذا هم أصحاب جرائم فحضر إليهم الأعوان ووضعوا في رقابهم الأغلال ووضعوا في رقبتي غلا معهم، فمن فرض مروءتي سكت ولم أتكلم، ثم ساروا بنا حتى أقفونا بين يديك، فأمرت بضرب رقاب العشرة، وبقيت أنا بين يدي السياف، ولم أعرفكم بنفسي أليست هذه مروءة عظيمة قد أحوجتني إلى أن أشاركهم في القتل؟ ولكني طول دهري هكذا أفعل الجميل! .. فلما سمع الخليفة كلامي، وعلم أني كثير المروءة قليل الكلام ما عندي فضول، كما يزعم هذا الشاب الذي خلصته من الأهوال، قال الخليفة: وإخوتك الستة مثلك فيهم الحكمة والعلم وقلة الكلام؟ قلت: لا عاشوا ولا بقوا إن كانوا مثلي ولكن ذممتني يا أمير المؤمنين ولا ينبغي لك أن تقرن إخوتي بي لأنهم من كثرة كلامهم وقلة مروءتهم كل واحد منهم بعاهة فمنهم واحد أعرج، وواحد أعور، وواحد أفلج، وواحد أعمي، وواحد مقطوع الأذنين والأنف، وواحد مقطوع الشفتين، وواحد أحول العينين ولا تحسب يا أمير المؤمنين أني كثير الكلام، ولا بد من أن أبين لك أني أعظم مروءة منهم ولكل واحد منهم حكاية اتفقت له حتى صار فيه عاهة، وإن شئت أن أحكي لك فاعلم يا أمير المؤمنين أن الأول وهو الأعرج.

كانت صنعته الخياطة في بغداد، فكان يخيط في دكان استأجرها من رجل كثير المال، وكان ذلك الرجل ساكناً أعلى الدكان، وفي أسفل دار الرجل طاحون، فبينما كان أخي الأعرج جالساً في الدكان في بعض الأيام إذ رفع رأسه فرأى في ركن الدار امرأة كالبدر الطالع، وهي تنظر إلى الناس. لما رأها أخي تعلق قلبه بحبها، وصار طول يومه ينظر إليها، وترك اشتغاله بالخياطة إلى وقت المساء. لما كان وقت الصباح فتح دكانه وجلس يخيط، وهو كلما غرز غرزة ينظر إلى الدار، فمكث على ذلك مدة لا يخيط شيئاً يساوي درهماً فاتفق أن صاحب الدار جاء إلى أخي يوماً من الأيام ومعه قماش وقال: فصل لي هذا وأجعله أقمصة، فقال أخي: سمعاً وطاعة ولم يزل يفصل حتى فصل عشرين قميصاً إلى وقت العشاء، وهو لم يذق طعاماً ثم قال له: كم أجرة ذلك؟

فلم يتكلم أخي فأشارت إليه الصبية بعينها ألا يأخذ منه شيئاً وكان محتاجاً إلى فلس واستمر ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب إلا القليل بسبب اجتهاده في تلك الخياطة فلما فرغ من الخياطة التي لهم، ذهب إليهم بالأقمصة، وكانت الصبية قد عرفت زوجها بحال أخي، وأخي لا يعلم ذلك، واتفقت هي وزوجها على استعمال أخي في الخياطة بلا أجرة ليضحكا عليه فلما فرغ أخي من جميع أشغالهما، عملا عليه حيلة وزوجاه بجاريتهما، وليلة أراد أن يدخل عليها قالا له: بت الليلة في الطاحون، وفي غد يكون خيراً، فاعتقد أخي أن لهما قصدا صحيحاً، فبات في الطاحون، وراح زوج الصبية فغمز الطحان عليه ليدروه في الطاحون، فدخل عليه الطحان في نصف الليل، وجعل يقول إن هذا الثور بطال مع أن القمح كثير وأصحاب الطحين يطلبونه فأنا أعلقه في الطاحون حتى يخلص طحين القمح، فعلقه في الطاحون إلى قرب الصبح.

كيد النساء

جاء صاحب الدار فرأى أخي معلقاً في الطاحون والطحان يضربه بالسوط، فتركه ومضي وبعد ذلك جاءت الجارية التي عقد عليها، في بكرة النهار، فحلته من الطاحون وقالت: قد شق عليَّ وعلى سيدتي ما جرى لك وقد حملنا همك فلم يكن له لسان يرد جواباً من شدة الضرب. ثم إن أخي رجع إلى منزله وإذا بالشيخ الذي كتب الكتاب قد جاء وسلم عليه وقال له: حياك الله، زواجك مبارك، أنت بت الليلة في النعيم والدلال من العشاء إلى الصباح. فقال له أخي: لا سلم الله الكاذب، والله ما جئت إلا لأطحن في موضع الثور إلى الصباح. فقال له: حدثني بحديثك. فحدثه أخي بما وقع له، فقال له: ما وافق نجمك نجمها، ولكن إذا شئت غيرت بأحسن منه لأجل أن يوافق نجمك نجمها، فقال له: أنظر إن بقي لك حيلة أخرى. ثم تركه أخي وأتى إلى دكانه ينتظر أحداً يأتي إليه بشغل يتقوت من أجرته... وإذا بالجارية قد أتت إليه، وكانت قد اتفقت مع سيدتها على تلك الحيلة، فقالت له: إن سيدتي مشتاقة إليك، وقد طلعت السطح لترى وجهك، فلم يشعر أخي إلا وهي قد أطلت له من وصارت تبكي وتقول: لأي شيء قطعت المعاملة بيننا وبينك؟ فلم يرد عليها جواباً فحلفت له أن جميع ما وقع له في الطاحون لم يكن باختيارها، فلما نظر أخي إلى حسنها وجمالها، ذهب عنه ما حصل له، وقبل عذرها فرحاً برؤيتها ثم تحدث معها وجلس في خياطته مدة، وبعد ذلك ذهبت إليه الجارية وقالت له: سيدتي تسلم عليك وتقول لك أن زوجها قد عزم على أن يبيت عند بعض أصدقائه في هذه الليلة، فإذا مضي عندهم تكون أنت عندنا وتبيت مع سيدتي في ألذ عيش إلى الصباح وكان زوجها قد قال لها: ما العمل في مجيئه عندك حتى آخذه وأجره إلى الوالي؟ فقالت له: أحتال عيه حيلة وأفضحه فضيحة يشتهر بها في هذه المدينة وأخي لا يعلم شيئاً من كيد النساء. لما أقبل المساء جاءت الجارية إلى أخي وأخذته إلى سيدتها فقالت له: يا سيدي أني مشتاقة إليك كثيراً.

فقال: بالله عجلي بقبلة قبل كل شيء. فلم يتم كلامه إلا وقد حضر زوج الصبية من بيت جاره، فقبض على أخي وقال: والله لا أفارقك إلا عند صاحب الشرطة فتضرع إليه أخي، فلم يسمع له بل حمله إلى دار الوالي، فضربه بالسياط، وأركبه جملاً، طاف به في شوارع المدنية والناس ينادون عليه: هذا جزاء من يهجم على حريم الناس، ووقع من فوق الجمل فانكسرت رجله، فصار أعرج ثم نفاه الوالي من المدينة فخرج لا يدري أين يقصد، فاغتظت أنا فحلقته وأتيت به والتزمت بأكله وشربه إلى الآن.

فضحك الخليفة من كلامي، وقال: أحسنت فقلت: لا أقبل هذا التعظيم منك دون أن تصغي إلىّ حتى أحكي لك ما وقع لبقية أخوتي، ولا تحسب أني كثير الكلام فقال الخليفة: حدثني بما وقع لجميع أخوتك وشنف مسامعي بهذه الرقائق، واسلك سبيل الإطناب في ذكر هذه اللطائف فقلت: أعلم يا أمير المؤمنين أن أخي الثاني كان اسمه {بقبقْ} وقد اتفق له أنه كان ماشياً يوماً من الأيام متوجهاً إلى حاجة له، وإذا بعجوز قد استقبلته وقالت له: أيها الرجل قف قليلاً حتى أعرض عليك أمراً فإن أعجبك فاقضه لي. فوقف أخي فقالت له: أدلك على شيء وأرشدك إليه بشرط ألا يكون كلامك كثيراً.

الصبر

فقال لها: هاتي كلامك. قالت له: ما قولك في دار حسنة فيها ماء يجري وفاكهة ومدام ووجه مليح؟ فإن فعلت ما اشترطه عليك رأيت الخير. لما سمع أخي كلامها قال: يا سيدتي كيف قصدتني بهذا الأمر من دون الخلق أجمعين، وأي شيء أعجبك مني؟ فقالت لأخي: قلت لك لا تكن كثير الكلام، واسكت وأمض معي. ثم مضت العجوز وسار أخي تابعاً لها طمعاً في ما وصفته له، حتى دخلا داراً فسيحة، وصعدت به من أدنى إلى أعلى، فرأى قصراً ظريفاً فيه أربع بنات لا يوجد أحسن منهن، وهن يغنين بأصوات تطرب الحجر الأصم. ثم إن بنتاً منهن شربت قدحاً فقال لها أخي: بالصحة والعافية. وقام ليخدمها فمنعته من الخدمة، ثم سقته قدحاً وصفعته، فلما رأى أخي ذلك منها، خرج مغضباً فتبعته العجوز وجعلت تغمزه بعينها يعني أرجع. فرجع وجلس، فأعادت البنت صفعه على قفاه، إلى أن أغمي عليه، ثم قام فلحقته العجوز وقالت له: أصبر قليلاً حتى تبلغ ما تريد، فقال لها أخي: إلى متى أصبر؟ فقالت له العجوز: إذا سكرت بلغت مرادك، فرجع أخي إلى مكانه وجلس، فقامت البنات كلهن وأمرتهن العجوز أن يرششن وجهه بماء ورد، ففعلن ذلك، وقالت له الصبية البارعة الجمال منهن: أعزك الله، قد دخلت منزلي فإن صبرت على شرطي بلغت مرادك. فقال لها أخي: يا سيدتي أنا عبدك وفي قبضة يدك. فقالت له: اعلم أن الله شغفني بحب الطرب، فمن أطاعني نال ما يريد، ثم أمرت الجواري أن يغنين، فغنين حتى طرب المجلس،.ثم قالت للجارية، خذي سيدك وآتيني به في الحال. أخذت الجارية أخي وهو لا يدري ما يصنع به، فحلقت لي  العجوز وقالت له: اصبر فقد بلغت ما تريد، وإنما بقي شيء واحد هو أن تحلق لحيتك فقال لها أخي: كيف أعمل في فضيحتي بين الناس؟ فقالت له العجوز: إنها ما أرادت أن تفعل ذلك إلا لأجل أن تصير أمرد بلا لحية، ولا يبقى في وجهك شيء يشكها، فقد صار في قلبها لك محبة عظيمة فصبر أخي وطاول الجارية وحلق لحيته، وجاءت به إلى الصبية وإذا هو محلوق الحاجبين والشاربين واللحية محمر الوجه، ففزعت منه، ثم ضحكت حتى استلقت على قفاها وقالت: يا سيدي لقد ملكتني بهذه الأخلاق الحسنة. وقالت له العجوز: الآن بلغت مرادك، وأعلم أنه ما بقي عليك من الدرب شيء، وما بقي إلا شيء واحد وذلك أن من عادتها أنها إذا سكرت يسرها أن تركض وراءها وهي تركض كأنها هاربة منك لا تزال تتبعها من مكان إلى مكان حتى تدركها.

وأدركت شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح