الفقد

نشر في 20-09-2015
آخر تحديث 20-09-2015 | 00:01
 ناصر الظفيري حين تنتهي من رواية وتنتهي علاقتك بها كعمل سترسله للمطبعة ثم للقارئ من المفترض أن تشعر بفرح الإنجاز الذي عملت عليه وسهرت من أجله واعتزلت الناس وأسرتك وحياتك الاجتماعية وتواصلك مع الآخرلأعوام يتغير فيها نمط حياتك الطبيعي.

هذا الفرح المؤقت هو في الواقع فرح لحظي ومؤقت. وما يعانيه الروائي، بشكل خاص، لا يعانيه كتاب الأجناس الأخرى الذين بإمكانهم أن يجمعوا بين حياتهم الاجتماعية ونصوصهم.

ربما لا يشعر الناقد الذي يعمل بآلية مخلتفة عن عمل الروائي بتلك العزلة اللازمة لإنجاز مشروعه الممنهج والبحثي، وربما لا يعانيها الشاعر الذي يحتاج إلى وقت أقل لكتابة قصيدة قد تأتيه في لحظة طارئة وتخرج نصاً. وعودة هؤلاء إلى طبيعة حياتهم الاجتماعية تكون عادة أسرع من عودة الروائي الذي كرس عالماً جديداً يعيش فيه مع شخوص من الوهم.

الزمن الذي يستغرقه الروائي في عزلته طويل نسبياً يمارس فيه طقوسه الخاصة، ويشعر بأن كل لحظة يبتعد فيها عن شخوص روايته هي خيانة لهم أو نسيانهم، وغيابه عنهم غياب عن تفاصيلهم التي رسمها ونفسياتهم وعلاقاتهم بالآخر في داخل العمل.

وهو غياب عن تفاصيل المكان المبتكر وحركة هذه الشخوص في حيز هذا المكان. وفي محاولته للتمكن من هذه الشخوص يجد نفسه وقد تمكنوا منه. لا يمنحونه الوقت الكافي للتفكير في سواهم أو السماح له بمغادرتهم ليوم راحة أو أقل.

هذا التعايش الحميمي مع الشخوص والأمكنة وزمن حركته يحول الروائي إلى أحد هذه الشخوص ويقع تحت سيطرة الذات الروائية أو ما يسمى بماكينة التأليف. هو ليس حراً الآن والشخصيات التي قيد حريتها في الأمكنة المختلفة تحت إرادته استطاعت أن تقيد حريته بالمكان المتاح عادة للكتابة.

لأعوام طويلة وهي يتابع حركتهم وسلوكهم وطريقة تنفسهم وانتقالهم من مكان إلى آخر محاولاً ألا يخرج منهم أحد من دفتي الرواية فينهار كل البناء الفني الذي يقوم به. وهو يعيشهم في صحوه ويقظته الذهنية يحزن لحزنهم ويضحك لنكتهم ويأسى لفراق أحدهم، يحب أحدهم أكثر من الآخر ويحلم بهم في منامه وبما قد يرتكبوه في غيابه أو ما يجب أن يرتكبوه في غيابه.

وحين يطمئن عليهم ويتأكد من أنهم أدوا الأدوار المنوطة بهم وأنهم ساروا كما أوحت شريعته يربت على أكتافهم ويغلق عليهم دفة الكتاب ويعتقد، مخطئاً، أنه ارتاح من جنونهم وعبثهم ومنطقيتهم. ويرسلهم بعيداً عنه متخلصاً من سطوتهم ومخلّصهم من سطوته ليصحو في اليوم التالي يعاني فقداً قد يصيبه بالبكاء.

هذا الفقد هو الألم الوحيد الذي يتمنى أن يصيب القارئ حين ينتهي من قراءة حياتهم. في اليوم التالي يجد نفسه بلا عمل حقيقي، وعليه أن يعود إلى حياته الطبيعية لبعض الوقت. أن ينام من دون أن تصرخ به شخصية مجنونة أو قتيل أو عاشق يائس. ولا يملك إلا أن يتبرأ منهم ويوكلهم لقارئ جديد ربما يكتبهم بطريقة أخرى مغايرة. ويتحول هو إلى قارئ لا يمتلك سوى نسخة من الرواية ربما كتب على غلافها الداخلي إهداء إلى نفسه.

back to top