الإثنية لدى الشخص والفئة هي ازدواجية الانتماء، والمشكلة تكمن في تقديم أحدهما على الآخر، فالشخص له انتماء وطني، وقبلي وطائفي، وانتماءات أخرى حزبية وطبقية فأي تلك الانتماءات يكون في الدرجة الأولى؟ ثم تتدرج بعدها الانتماءات الأخرى دون الإلغاء للآخر أيّاً كان انتماؤه الإثني. بدأت المشكلة بإثارة نزعة الإثنية مع ضمور الهوية الوطنية والقومية وتراجعها وصعود التيار الديني السياسي منذ نهاية السبعينيات من القرن العشرين، وتراكمت المشكلات وكانت كلها تقريباً سلبية من انعكاسات الثورة الإيرانية، والحرب العراقية الإيرانية، والحرب الأهلية اللبنانية، وظهور القاعدة كمنظمة متطرفة إلى غزو عراقي للكويت، وحرب يمنية شمالية جنوبية ووصولاً إلى الدواعش والحوثيين.

Ad

ونتيجة لذلك كانت الانتماءات الثانوية الطائفية والقبلية تتقدم على غيرها في وقت كانت فيه ناراً تحت الرماد، لا بل كان الماضي أفضل من الحاضر، وبذلك تراجع الانتماء الوطني الذي يجب أن تكون له الأولوية، ثم تتدرج بعده الانتماءات الأخرى التي فرضها الواقع، وكان ولا يزال لا بد منها لدى عدد كبير من الناس في كل مجتمعاتنا، أما لماذا تؤدي الإثنية إلى الحروب الأهلية فإن التعصب والتطرف يؤديان إلى النزاع فالصراع فالحرب.

ثم في ظل الظروف السابق ذكرها تغذية للتعصب مع تراجع للفكر، وشحن فئوي وسياسي وصدام للفئات المختلفة طائفيا وقبلياً، إذ حدث ذلك في ظل تراجع دور الدولة الوطنية، وأصبحت المصالح الشخصية والفئوية هي السائدة، وصاحب ذلك عدم استقرار للشعوب والأوطان، وكم كبير من الفساد السياسي والمالي والإداري، ولم يفكر عقلاء تلك الفئات بأن الخلاف والصراع يخسر من جرائهما الجميع ولا يربح منهما أحد. انظروا إلى لبنان أثناء الحرب الأهلية الثالثة وبعدها.

ربما يتساءل البعض عن مسألة الإثنية والحروب الأهلية هل هي خاصة بالعرب أم أنها ظاهرة عالمية؟

هذه الظاهرة ليست خاصة بالعرب بل تورطت فيها شعوب أخرى عبر تاريخها، بيد أن المشكلة أن العالم يتطور من حولنا في هذه المرحلة التاريخية ونحن نعيش ظاهرة النزاع الإثني والحروب الأهلية، المشكلة أن الشعوب العربية قد تجاوزت هذه المرحلة في القرن العشرين، والغريب أن تظهر بعد ذلك التطور الفكري سياسياً واجتماعيا هذه الإثنيات والصراعات والحروب، وكأننا نعود قرونا إلى الوراء! إن بعض المثقفين والمفكرين يقفون بذهول أمام ما يجري ولا يجدون له تفسيراً، والبعض قد وصل إلى نتيجة سلبية سوداء بألا فائدة، وأن التخريب الذي جرى ويجري يحتاج إلى قرن من الزمان لإصلاحه! يبقى الذين لديهم بصيص من الأمل يقولون إن هذا الذي يجري جزء من حالة التخلف مهما طالت فلها نهاية ولكن لا يعلمون متى؟ بدون شك إن حالة التقدم شاملة وكذلك حالة التخلف، فإذا كان الإنسان قد تم تدميره والمجتمع والفكر فإن الانتقال إلى التقدم ليس أمراً سهلاً لكنه ليس مستحيلاً.

البداية هي في معرفة أسباب الظاهرة، والبدء في المعالجة، وهذا العمل يحتاج إلى تغيير يبدأ بالفكر، وفكرنا بصراحة ليس استراتيجياً أولاً، ثم تشويه ملوثات اجتماعية وسياسية وذاتية، ولم يتخطَّ المثقفون والمفكرون الحقيقيون تلك الأزمة إلى الموضوعية التي تتكئ على الوطنية أساسا، وأن هؤلاء لا يحبون أن ينتظروا نتائج جهودهم في حياتهم، فالمعركة طويلة وصعبة، ثم بعد تطهير الفكر ووضوحه وامتداده الاستراتيجي تبدأ النهضة للعرب بالتركيز على الانتماء الوطني أولاً، وتقديمه على الانتماءات الأخرى، وهذا الوعي غير متوافر الآن.

يبقى في موضوع الإثنية والحروب الأهلية العربية سؤال يقول: كيف نجتاز مرحلة الحروب الأهلية؟

الحروب الأهلية في معظم الدول العربية: في العراق وسورية واليمن والصومال وليبيا، ونزاع وخلاف وعدم استقرار في دول عربية أخرى تسودها السكونية ولا يعني ذلك أنها أفضل.

إن المشكلة يتضرر منها الإنسان والأبرياء خاصة، وهناك مستفيدون من الحروب الأهلية لا يريدونها أن تنتهي، لمصالح سياسية ومادية، وهذه إحدى المشكلات والأسباب في استمرار الظاهرة، وإن اجتياز مرحلة تاريخية سلبية ليس سهلاً وليس مستحيلاً، ويحتاج إلى ظروف موضوعية تعج بإرهاصات متقدمة تشرق في وقت تتوافر منها شروطها، ويبدو أنها ليست قريبة.

وحتى الانتهاء من الصراع الإثني والحروب الأهلية ليس نهاية المشكلة، فالدول التي تشهد تلك الظاهرة والمرشحة لتشهدها تحتاج بعدها إلى مرحلة صعبة من إزالة آثار تلك الحروب فكرياً ونفسياً واجتماعياً واقتصادياً وكذلك سياسياً، وإن إعادة البناء مرحلة صعبة وطويلة حتى تعود الأوضاع لطبيعتها، وتبدأ من جديد مسيرة تلك الشعوب مستفيدة من الفرص التاريخية، وهذه الفرص لا تأتي إلا نادراً وبين فترة زمنية وأخرى طويلة، المسألة تكمن في أننا نكون فيها قادرين على استغلالها والاستفادة منها في الوقت المناسب بوعي ثاقب يدرك حقيقة الواقع والمستقبل وأبعادهما، وبدون شك فإن مثل ذلك الوعي يحتاج إلى مناخ حر لا بد من توافره أو فرضه بإرادة وجهود الشعوب وقواها الخيرة، في مقدمتها المثقفون والمفكرون الحقيقيون حتى يوفروا الرؤية إلى جانب جهودهم في نقد الواقع.

إن الإثنية والحروب الأهلية واقع نعيشه والأحلام والآمال ضروريتان ليبقى الأمل في تجاوز هذه المرحلة التاريخية إلى مرحلة أفضل منها.