صحافيون وجنود

نشر في 13-09-2015
آخر تحديث 13-09-2015 | 00:01
أنصفت المحطة التلفزيونية المجرية وتصرفت على نحو صحيح حين طردت المصورة «لاسزو»، وكانت تلك الأخيرة ستكون منصفة وإعلامية أكثر مهنية لو اكتفت بالقيام بعملها دون أن تسعى إلى أن تتحول من «صحافي» إلى «جندي».
 ياسر عبد العزيز تقول الأخبار إن قناة تلفزيونية مجرية خاصة طردت إحدى مصوراتها، بعدما ظهرت وهي تركل مهاجرين وتوقعهم أرضاً، وذلك أثناء محاولتهم الفرار من طوق أمني في "روزكي" في جنوب المجر.

وفي أحد المشاهد، ظهرت مراسلة تلفزيون "إن 1 تي في"، وتُدعى "بترا لاسزو"، وهي تعرقل بقدمها رجلاً يحمل طفلاً ويركض به محاولاً الفرار من أيدي شرطي، فوقع الرجل والطفل أرضاً، في حين ظهرت في مشهد آخر، وهي تركل طفلاً كان يركض محاولاً الفرار من الطوق الأمني.

ووفق وكالات الأنباء العالمية، فقد بثت "إن 1 تي في"، وهي قناة تلفزيونية تبث عبر الإنترنت ومقربة من حزب "غوبيك" اليميني المتطرف مشاهد للواقعتين التقطتها كاميرا المصورة نفسها، وفي بيان صدر لاحقاً قال رئيس تحرير القناة "سابولكس كيسبيرك"، إن "إحدى الزميلات في (إن 1 تي في) تصرفت اليوم بطريقة غير مقبولة، وقد أنهينا عملها على الفور".

لقد شاهدت المشاهد التي توضح قيام تلك المصورة بركل المهاجرين أكثر من مرة، وعلى الرغم من المشاعر السلبية التي تثيرها تلك المشاهد بسبب التعاطف مع المهاجرين، خصوصاً في أعقاب حادثة غرق الطفل السوري "إيلان" وبعض أفراد عائلته في البحر المتوسط أخيراً، فإن دلالات أخرى يمكن استخلاصها مما جرى.

إن تلك الإعلامية تعمل في قناة تلفزيونية مقربة من أحد الأحزاب اليمينية، وقد ظهر لاحقاً أن لذلك الحزب موقفاً واضحاً إزاء عملية استقبال المهاجرين في أوروبا عموماً والمجر خصوصاً، حيث يعتقد هذا الحزب، مثل بعض الأحزاب اليمينية الأخرى، أن فتح الباب لاستقبال المهاجرين قد يؤثر في اقتصادات دول القارة العجوز ويهدد تماسكها الاجتماعي ويزعزع سلمها الأهلي.

ويبدو أن انتماء تلك الصحافية إلى هذه القناة بالذات له علاقة بالتوجهات الفكرية والسياسية التي تتبناها، وبناء عليه يمكننا اعتبار أن تلك المصورة لم تكن تمارس عملها الصحافي بتجرد وموضوعية، حين قامت بالتقاط تلك الصور للمهاجرين الذين يتعرضون لعمليات التوقيف، لكنها كانت تخلط بين موقفها السياسي ومهنتها.

إن "بترا لاسزو" نموذج واضح لـ"الإعلامي الجندي"، وهو نموذج يتكرر باستمرار؛ سواء من هذا الصحافي الذي يترك عمله المتمثل بتوجيه الأسئلة ويستبدل به "الهتاف للقائد المفدى"، أو تلك الإعلامية التي توجه سباباً جارحاً إلى زعيم دولة أجنبية لأنه "يعادي بلادها"، أو هذا الإعلامي الذي يدعو المواطنين إلى الخروج في تظاهرة، أو تلك الإعلامية التي وضعت مسدسها على الطاولة أمام المشاهدين، مهددة كل من ينتقد زعيمها أو يخرج عليه.

لا يكاد يوم يمر إلا ويتورط إعلامي ما في واحدة من المخالفات الجسيمة التي يحفل بها العمل الإعلامي كنشاط إنساني ومهني شديد التعقيد والصعوبة، لكن أكبر تلك المخالفات على الإطلاق تظهر حين ينسى الإعلامي مهام وظيفته المفترضة، ويتحول إلى جندي في المعركة، وصاحب رأي وقرار، يريد أن يفرض رأيه، وينصر فريقه من خلال عمله الإعلامي.

لا يمكن لعاقل أن يتصور مطالبة الإعلاميين بتجريد أنفسهم من الآراء الشخصية، والتخلي عن المواقف السياسية، خصوصاً في الأوقات الحرجة التي تشتعل فيها الأحداث، وتمر فيها الأوطان بلحظات مصيرية، تعيد تشكيل الوقائع فيها، وترسم لها طريق المستقبل، لكن لا يمكن لعاقل أيضاً أن يتصور أن يستغل الإعلاميون عملهم في تحقيق أهدافهم السياسية، أو يحاربون في معاركهم السياسية بالأخبار والكاميرات.

يريد "الإعلامي الجندي" في تلك الأثناء أن ينصر فريقه، أو "يقف في صف الوطن أو الخير أو الإيمان" أو أي من المعاني النبيلة التي يعتقدها، يريد أن يكون جزءاً من المعركة لا معلقاً عليها أو ناقلاً لها فقط.

كلما قال هذا الإعلامي "أنا أرى"، أو "من وجهة نظري الشخصية"، وكلما "هاجم هذا الطرف أو ذاك بشدة وشغف"، أو "ألقى الحجارة على العدو"، أو "عرقل الخصم المفترض"، شعر أنه يمارس عمله بشكل أفضل، ويخدم فريقه بطريقة أمثل.

يقول هذا الإعلامي الجندي إن "الحياد خرافة" و"الموضوعية وهم"، ويترفع عن العمل كـ"مسجل صوت" أو "ساعي بريد"، ويريد أن تكون له مواقف ووقفات، ويسعد أن يصفه الجمهور بـ"الثائر" و"المناضل" و"الزعيم" و"المدافع عن الوطن".

يمكننا دائماً تفهُّم حسن نية بعض "الإعلاميين الجنود"، باعتبار أنهم قرروا تجنيد أنفسهم لخدمة أهداف "إنسانية أو وطنية" من وجهة نظرهم، وأنهم يستخدمون شاشاتهم وكاميراتهم وأقلامهم لتحقيق "الأهداف النبيلة" التي يؤمنون بها، لكننا لن نعتبرهم جميعاً معصومين من الفساد أو الخطل أو الادعاء، ولن يكون بمقدورنا تأكيد أنهم جميعاً يعملون من أجل "المصلحة العامة".

ثمة طريقة مهنية واضحة لعمل الإعلامي الذي ينقل إلى الجمهور الأحداث الجارية من أجل المصلحة العامة، وهي طريقة سهلة وبسيطة جداً، لا تتطلب منه سوى شيء واضح محدد: "أنجز عملك فقط على الوجه الأكمل، ودع للآخرين الفرصة لإنجاز أعمالهم".

يريد "الإعلامي الجندي" أن يكون نجماً يحظى بالمجد والشهرة والأموال الوفيرة، ويريد أيضاً أن يكون سياسياً يقود الشارع ويصنع السياسة، وقائد رأي يعلق على الأحداث ويرسي الأجندات، ومقاتلاً في المعركة، أو ثائراً في الميدان... أو رجل شرطة يركل مهاجراً يسعى إلى اللجوء. يريد الجمهور أن يعرف حقيقة ما يجري في الميدان، وتلك مهمة تحتاج إلى إعلامي يستطيع إنجازها على الوجه الأكمل دون زيادة أو نقصان.

الحياد الإعلامي ليس خرافة كما يدعي البعض، كما أنه ليس هدفاً يمكن تحقيقه بالكامل، الحياد قيمة مهنية تستحق العمل من أجلها ويجب السعي إلى تحقيقها، ليس بغرض القبض عليها وإدراكها بالكامل، ولكن بغرض استيفاء أسبابها والنزوع نحوها، عبر وسائل معروفة؛ أهمها الإنصاف والتوازن والتنصل ونشر الحقائق حتى لو كانت لا تراعي المزاج العام.

لقد أنصفت المحطة التلفزيونية المجرية وتصرفت على نحو صحيح حين طردت المصورة "لاسزو"، وكانت تلك الأخيرة ستكون منصفة وإعلامية أكثر مهنية لو اكتفت بالقيام بعملها دون أن تسعى إلى أن تتحول من "صحافي" إلى "جندي".

* كاتب مصري

back to top