كان السؤال الذي أبحث له عن إجابة هو: لماذا يتفوق الشعر على السرد في الحالات التي يعاني الكاتب فيها التشرد والنفي واللااستقرار المدني؟ ومبعث السؤال هو حالتان عربيتان تكادان تتشابهان على نحو ما. الحالة الأولى هي الحالة الفلسطينية، وما صاحبها من تفوق شعري على المستوى العربي مقابل تراجع السرد الفلسطيني أمام ذات الحالة، فالأسماء التي برزت للتعبير عن حالة الضياع والمقاومة، سواء داخل الوطن الفلسطيني السليب، أو التي تم نفيها خارج حدود الوطن تفوقت شعرياً، ورسخت وجودها بشكل يثير الاهتمام والمتابعة، فنستطيع رصد أسماء لا حصر لها رأت في الشعر تعبيراً مباشراً على اعتبار أنه الجنس الأدبي المتصل مباشرة بالجماهير، والأكثر قدرة على اثارة حماسها وتفاعلها مع قضيتها الأهم. وربما لا نجد هذا الكم من الكتّاب الذين لجأوا إلى السرد للقيام بذات الدور.

Ad

بإمكان الراصد للحركة الأدبية الفلسطينية القيام بهذه المقارنة والبحث في أسبابها بمنتهى اليسر. وقد يرى الباحث أن اختيار الكاتب للجنس الأدبي للتعبير ليس مفاضلة بين أجناس أخرى، إنما في ما تميل إليه موهبة الكاتب، وذلك ليس دقيقا تماما.

ما يحدث أن الكاتب يختار في أغلب الأحيان الجنس الأدبي، في محاولة للوصول إلى التعبير الأكثر تأثيراً والمباشر أحياناً عبر وسائل إعلامية ومحافل منبرية يتواصل بها مع جمهوره، وهو ما يحققه الشعر ولا يحققه السرد، الذي يحتاج إلى صبر ومشقة في الكتابة والمتابعة.

هذه الحالة الفلسطينبة والناجحة في حينها تتشابه إلى حد بعيد مع حالة البدون في الحاجة إلى التعبير عن معاناة النفي داخل الوطن أو حالة الاغتراب عنه باللجوء إلى الشعر كطريق مباشر للتواصل مع القارئ. لدينا أسماء كثيرة كسعدية مفرح، ودخيل الخليفة، ومحمد النبهان كجيل سابق لزملاء لهم مازالوا يستخدمون الشكل الشعري كشهد الفضلي وبشاير العبدالله، وفي المقابل يتضاءل العمل السردي لدى الكتاب، ورغم مرور زمن ليس باليسير على القضية ومكابداتها فإنها كانت فقيرة سردياً مقارنة بنجاحها شعرياً. ويمكن للمتابع أن يرى تطور السرد في حالة الاستقرار لدى الآخر الكويتي، والذي لا يعاني انفصاله عن وطنه كما هو الحال لدى أقرانه من البدون. وما ينطبق على الحالة الفلسطينية يكاد ينطبق على الحالة الثانية، فالشعر هنا لم يكن اختياراً حراً للكاتب إنما هو الوسيلة الأكثر قدرة على إيصال الرسالة التي يرغب الكاتب في إيصالها.

اليوم يتراجع الشعر في الحالتين الفلسطينية وحالة البدون أمام السرد الذي يحتل المساحة الأكثر تأثيراً لدى القراء والشكل الذي كان يصلح في سنوات سابقة لم يعد القناة التي تستأثر بالمتابعة والاهتمام. وربما لا نستطيع أن نذهب بعيداً في الطلب من الشعراء الذين تكرست أسماؤهم للعودة الى كتابة السرد، رغم أن ذلك ممكن ومارسه مجموعة من الشعراء العرب بغض النظر عن درجة النجاح، ولعل أبرزهم إبراهيم نصرالله وسليم بركات، ولكنني أرى إمكانية أن يتجه الشباب الى السرد كشكل كتابي أكثر انتشاراً وتأثيراً. وربما يحمل لنا المستقبل مجموعة من كتاب السرد مستفيدين من قراءاتهم السردية وانتشار السرد بين القراء.