«بلال مؤذن الرسول»
اللافت في عدد غير قليل من الأفلام الدينية، التي أنتجتها السينما المصرية في الخمسينيات والستينيات، أنها لم تلق بالاً للمراجع والوثائق، ولم يحرص أصحابها، من كتاب ومخرجين ومنتجين، على الاستعانة بالباحثين أو المؤرخين، وإنما اعتمدوا على اجتهاداتهم الشخصية في قضية لا تحتمل وجود اجتهاد من أي نوع، ومن ثم كانت النتيجة أن اعتمد الكثير من تلك الأفلام على معلومات مغلوطة. ونظراً إلى كونها الوحيدة التي اقتربت من تلك الزاوية جرى الاحتفال بها على نطاق واسع، وتجاهلنا ما يتضمنه غالبيتها من أحكام عاطفية بأكثر من كونها موضوعية أو حقيقية، والأخطر أن الجمهور صار يتعامل مع البدهيات التي كرستها بوصفها مسلمات لا ينبغي التشكيك فيها أو مراجعتها بأي حال!في فيلم «بلال مؤذن الرسول» (1953) يتخذ «آل الطوخي» (فؤاد الطوخي كاتب للقصة والحوار وأحمد الطوخي المخرج وكاتب السيناريو ومحمد الطوخي بطل) من مقولة الرسول محمد: {الجنة لمن أطاعني ولو كان عبداً حبشياً والنار لمن عصاني ولو كان شريفاً قرشياً»، نقطة انطلاق لإنتاج فيلم يتناول سيرة بلال بن رباح، يبدأ بسوط ينهال على عبد لأنه سرق بعض الحبوب، ما يؤدي إلى موته، ونعرف أن قاتله هو «رباح» (محمد الطوخي)، الذي يؤنبه ضميره، لأنه كان عبداً قبل أن يعتقه سيده، وما زالت زوجته «حمامه» (عزيزة حلمي) عبده، وعلى وشك أن تلد عبداً، ربما يُضرب ويُقتل على يد جلاد آخر، خصوصاً بعدما بشرته الجارية أنه رزق ولداً، ما دفعه إلى التفكير في أن يقتله خشية أن يُصبح عبداً ذليلاً!
من المسلم به، بالطبع، أن تلك النوعية من الأفلام أنتجت بعد سنوات طويلة من نزول الوحي، وانتشار الدعوة الإسلامية، لكن أصحابها يتجاهلون الحقيقة، ويصورون لنا الأمر وكأن الوحي هبط على الأبطال أنفسهم. فأم «بلال» تُحدث زوجها، وكأنها صاحبة نبوءة، فتقول إن «الظلام لن يدوم» وأنه «سيأتي اليوم الذي يتساوى فيه الحر والعبد السيد والمسود والغني والفقير»، ويتكرر الأمر مع «الفضل» (حسين رياض) الذي يقول للبطل، عندما علم أنه من مكة: «سيظهر فيكم نبي يدعو إلى دين جديد»، بينما يروي «رباح» لزوجته قصة زيارته الكعبة، ورؤيته الغلام، الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره، ويصفه بكلمات لا يمكن أن تصدر عن رجل يعيش في عصر الجاهلية: «يفيض وجهه بشراً... يتحدث في وقار الشيوخ... حلو المنطق إذا تكلم علاه البهاء وإذا صمت علاه الوقار... يتكلم في تؤده واتزان شأن العالم الواثق بما يقول»، فالكل يتحدث بمنطق العالم ببواطن الأمور أو كأنه في سوق عكاظ، ولا اعتبار، بالمرة، للخلفية التي لا تؤهل صاحبها لأن ينطق كلاماً منمقاً بهذا الشكل! بالإضافة إلى الفقر الإنتاجي الملحوظ، والاعتماد على «الأكليشيهات»، التي تحولت إلى نمط ثابت في الأفلام الدينية التالية، حيث الراوية الذي تشعر معه وكأنك حيال مسلسل إذاعي، والتعذيب بالحجر الجاثم على الصدر بينما يقول المسلم: «أحدٌ أحدٌ»، والمؤمنون الذين يرتدون ألبسة بيضاء بينما الكفار في اللون الأسود، والحادي الذي يغني أمام البعير بلا سبب أو مناسبة، والراقصة التي تتلوى أمام الكفار في الحانة، والمرابي اليهودي ذو الأنف المعقوف، ونساء يثرب اللائي يغنين «طلع البدر علينا» فيما يعتلي الرجال النحيل. كشف فيلم «بلال مؤذن الرسول» عن وجود ما يُسمى وقت إنتاجه (1953) «المسرح الإسلامي» التابع لجماعة الشبان المسلمين، الذين قالت العناوين إنهم شاركوا في البطولة، ولسبب غامض تأخر ظهور «ماجدة» إلى ما قبل نهاية الفيلم بست عشرة دقيقة، في حين لم يختف يحيى شاهين عن أي مشهد!في مقالي السابق عن فيلم «انتصار الإسلام» أشرت إلى القدرات المتواضعة للمخرج أحمد الطوخي، وهو ما تأكد بجلاء في هذه التجربة، التي بدت فيها أغاني بيرم التونسي ماسخة، والعملاق عبد العزيز فهمي، وكأنه يتحسس طريقه إلى التصوير، في حين فهم يحيى شاهين، خطأ، أنه سينجح في استقطاب تعاطف الجمهور عندما يظهر في صورة المسلم الذليل، الضعيف، الخانع، والمسكين الذي تطفر الدموع من عينيه باستمرار بينما يؤكد الفيلم أن المسلمين عندما قويت شوكتهم أغاروا على أهل قريش، لاسترجاع أموالهم بقوة السلاح، وكأن هدفهم الثروة وليس نشر الدين!فضلاً عن اللغة العربية الفصحى التي تشبث بها فيلم «بلال مؤذن الرسول» يحسم الفيلم الجدل عندما يؤكد أن رايات المسلمين في غزواتهم كانت سوداء، وينفي ما أشيع عن اضطهاد المرأة في تلك الحقبة، فالبطل «بلال بن رباح» يطلب، بعد أن ذاع صيته كمؤذن للرسول، يد الفتاة اليمنية «هند»، ومع هذا يسألها والدها: «بلال جاء يخطبك فانظري ماذا ترين؟».