أمرٌ ما في الكواليس جعل لجنة نوبل للآداب تختار البيلاروسية، الكاتبة عن منطقة تتسم بنزاعات سحيقة وذاكرة مريرة. لم ينتهِ أجلُ جروح ومآسٍ كتبت عنها حاصدة نوبل، سواء في أوكرانيا حيث ما زال الانفجار النووي يلملم جرائمه الحرارية والإشعاعية، أو في أفغانستان المستمرة في حروبها الأهلية والإثنية والدولية.

Ad

أغري عقل لجنة التحكيم بالسياسة ربما، ولكن لا ضير من أن تحمل نوبل للآداب مكنوناً سياسياً يشكِّل عنصراً بارزاً في كتابات الصحافية البيلاروسية السابقة. ما إن صدرت النتيجة حتى سأل كثيرون بحيرة: هل نحن إزاء {أكثر الأعمال روعة، وذات النزعة المثالية}، كما وصف ألفريد نوبل إنتاجات الفائزين بجائزته في الأدب؟ (وهو سؤال {نوبلي أدبي سنوي}). جاء الاعتراض باعتبار أن الجائزة خرجت عن مسارها بذهابها إلى كاتبة تتكاثفُ فيها صفات الصحافة أكثر من الأدب، وأكبر خصالها توثيق المقابلات. لكن نوبل في الحقيقة، يتصل جذرها السياسي بالبريطاني ونستون تشرشل وهو تسلَّمها في السنة 1953 عن مذكرات له تغلب عليها الصبغة السياسية، ولا تدنو من الأدب، حتى وإن قال بعضهم إن في خطبه بلاغة ما.

اليمين واليسار لم يسلما من إدخالهما في إطار الجائزة، فرأى بعض الصحافيين في نوبل للآداب 2015 ترجيحاً لكفة اليمين، لا سيما أن الفائزة {تفرم} (إذا صح التعبير) الحقبة السوفياتية بقلمها، مركزةً على أن الاشتراكية والفاشية من سيئات القرن الماضي. إزاء {حبكة الظروف السياسية} هذه، يأخذنا فوز البيلاورسية إلى علاقة نوبل بالأدب الروسي عموماً، وهي طالما كانت موضع سجال تخللته محطات من المناكفة والأخذ والرد ولم تمر سنة بهدوء تام. كتب نقاد كثيرون عن هذه العلاقة. قال بعضهم إن الجائزة حجبت عن أسماء كبيرة في الأدب الروسي لأسباب سياسية، في حين فاز بها آخرون لطبيعة الأسباب نفسها، نكاية بالسلطة الروسية أو السوفياتية الشيوعية، فأصابت اللجنة حيناً بينما جاء حكمها تشفَّياً بالسياسة السوفياتية أو أغضاباً لها حيناً آخر، وفي بعض المرات كان فوز الروسي مشكلة للجنة تحكيم نوبل.

لا شك في أن روسيا أنتجت كثيراً من العظماء في الرواية والشعر، وهي صنعت أيضاً قضايا لافتة، وأتت الفكرة الشيوعية التي تطرح نظرية الواقعية الاشتراكية في الأدب لتزيد الأمور تعقيداً، خصوصاً أن الأنظمة مارست القمع لأجل تطبيق نوع محدد من الأدب، وعلى هذا كان الأدب جزءاً من الصراع بين الشرق الشيوعي وبين الغرب الرأسمالي. كانت الشيوعية حاضرة بقوة لدى أجيال من المثقفين والروائيين، وكانت الرأسمالية تركِّز على الأقلام المعترضة وتدعمها، أو تدعم الأقلام التي تسمى {منشقة} في محاولة لكسب الرأي العام العالمي من خلال قضية بارزة هي {الحرية}. لم تكن جائزة نوبل بمنأى عن هذا الصراع، والمرة الأولى التي وظفت فيها بقوة ضد الشيوعية، لاحظ نقاد الإشكالية الكبيرة بين نوبل وبين الأدب الروسي تحديداً، التباس يبيِّن غواية الأخير وفي الوقت نفسه توظيف الجائزة في السياسة.

عندما منحت لبوريس باسترناك (1890-1960) في السنة 1958 عن روايته {دكتور زيفاكو}، أحدثت نوبل ضجة واسعة في الغرب. ولم يكن هذا الإنجاز ممكناً من دون أخذ السياسة بالاعتبار. حتى إن قليلين يجهلون ردود فعل الأوساط الرسمية السوفياتية آنذاك، وكيف اضطر باسترناك تحت ضغط رسمي من دولته إلى رفض النوبل متماهياً مع {الثقافة الستالينية}.

نتجاوز ميخائيل شولوخوف (1905-1984) صاحب {الدون الهادئ} وحاصد نوبل سنة 1965 من دون ضجيج، لنصل إلى الكسندر سولجينيتسن (-1918 2008). ظفر مؤلف الروايات عن معسكرات الاعتقال والتعذيب الستالينية، خصوصاً {آرخبيل الغولاك} بالجائزة في السنة 1970، ونفي الروائي الكبير واعتبر أحد أبرز المنشقين، ولم يعد إلى روسيا إلا بعد سقوط الشيوعية، حيث لاحظ بقوة انهيار الدولة في زمن بوريس يلتسين.  

نقاد لاحظوا إشكالية نوبل والأدب الروسي، لفتتهم بقوة فضيحة توظيفها سياسياً في منحها للشاعر غير الجدير بها، كما قيل، جوزف برودسكي (1940 – 1996)، وهو هاجر من الاتحاد السوفياتي في السنة 1971، واستقر في الولايات الأميركية المتحدة وحصل على جنسيتها سنة 1977. ورغم أنه يعتبر ضمن الأدباء الأميركيين الفائزين بالجائزة (1987) في زمن مواجهات {الحرب الباردة} وحرب النجوم، فهو حصدها، بحسب بعض النقاد لمجرد معارضته النظام السوفياتي وهجرته للإقامة في بلاد العم سام. وأحدث فوزه مشكلة داخل لجنة تحكيم نوبل نفسها، نتجت منها استقالة بعض أعضائها.

نوبل المفاجآت، من تشرشل إلى ألكسيفيتش، تارة تغمر أديباً مغموراً وطوراً تفتح ذراعيها لروائي بأبعاد سياسية، ولا تتردد في تكريم فئة اجتماعية... ذلك كله يتعلق بقدرة الحكام على القراءة والبحث عن البعد الإنساني في الأدب والشعر. وإذ عدنا إلى الأرشيف النوبلي الأدبي نبيِّن أنه يفيض بالإشكاليات، وأن الجائزة استأنفت الماضي حينما مضت إلى الكاتبة البيلاروسية، كأنها تقول إن الاتحاد السوفياتي غاب لكن آثاره السلبية «حية ترزق»، وإن طيفه يحضر بشكل من الأشكال، ونسخة رديئة عنه نراها في السياسة البوتينية (فلاديمير بوتين).

وأن تكتب البيلاروسية عن المعاناة ما بعد تشرنوبيل، فهذه إشارة إلى مأساة العالم كله، وإلى ما تحصده سياسة التسلح، وما تصنعه الحروب والإمبرياليات والتدخلات. يبقى أننا نتعرف بعد فوز سفيتلانا ألكسيفيتش بالنوبل، عبر الترجمة، إلى كتاباتٍ «شرسة»، لا ريب، استبدلت الحقيقةً كاملةً بالبلاغة.