أمامنا تحديات جدية تتعلق بوجودنا وتماسك جبهتنا الداخلية وقوتها لمواجهة المخاطر الخارجية، وهو الأمر الذي يتطلب مبادرة جريئة من السُّلطة تحمل انفراجاً سياسياً وإصلاحات سياسية-ديمقراطية شاملة توحّد الشعب بكل فئاته ومكوناته الاجتماعية حول مشروع دولة مدنية ديمقراطية حديثة تتسع للجميع.

Ad

لا يبدو أن هناك اهتماما جديا حتى الآن بضرورة تماسك الجبهة الداخلية التي تعتبر حجر الأساس في حماية الوطن من أي مخاطر خارجية، أو تحديات وانعكاسات سلبية نتيجة ما يدور في منطقتنا من صراعات سياسية شرسة، وحروب عبثية، ووضع إقليمي ودولي مضطرب وغير مستقر لا سيما أن درجة تأثرنا في الداخل بالظروف الخارجية تعتبر عالية، وذلك نتيجة عوامل عدة من ضمنها صغر حجم البلد.

وفي هذا السياق فإنه لا يمكن الحديث بشكل جدي عن تماسك الجبهة الداخلية واستقرارها ونحن ما زلنا نعاني تبعات أزمة سياسية ترتبت على انفراد الحكومة بتعديل النظام الانتخابي؛ مما أدى إلى تقليص القاعدة الانتخابية لأعضاء مجلس الأمة بدلا من توسيعها، فضلا عن التهميش السياسي لفئات اجتماعية أساسية، وهو ما يعني ضعف قاعدة الشراكة السياسية في صناعة القرارات والسياسات العامة، وهو الأمر الذي أخل بتوازن مؤسسات الدولة الدستورية، وجعل قوى سياسية واجتماعية أساسية وفاعلة تقاطع الانتخابات العامة مرتين متتاليتين، وتحتج على ذلك عن طريق النزول إلى الشارع والمطالبة بإصلاحات سياسية وديمقراطية، وما تبع ذلك من ملاحقات سياسية وقضائية، بعضها على مجرد "تغريدات" في "توتير"، انتهت إلى سجن رموز معارضة وأصحاب رأي سياسي؛ مما زاد من تفاقم الأزمة السياسية وتعقيدها.

من جانب آخر فإنه لا يمكن، بأي حال من الأحوال، الحديث عن تماسك الجبهة الداخلية وقوتها في ظل تقليص هامش الحريات العامة، وإغلاق المجال السياسي والعام أمام الناس كي يأخذ الصراع السياسي مجراه الطبيعي، أو في ظل الاستقطابات الطائفية، والفئوية، والعنصرية الحادة وغير المسبوقة التي بدأت تنعكس على بعض القرارات والسياسات العامة، وهو الأمر الذي سيؤدي لا محالة، إن لم يكن قد أدى بالفعل، إلى تفتيت النسيج الاجتماعي الوطني وتزكية الهويات الثانوية (القبيلة والطائفة والعائلة والمنطقة) على حساب الهوية الوطنية الجامعة التي توحّد الناس ضمن قاعدة المواطنة الدستورية، أي الحقوق والواجبات المتساوية.

التحديات التي تواجهنا في هذه المرحلة التاريخية الصعبة هي تحديات جدية تتعلق بوجودنا ذاته؛ مما يجعل تماسك الجبهة الداخلية وقوتها مسألة في منتهى الأهمية، وذلك من أجل مواجهة المخاطر الخارجية، وهو الأمر الذي يتطلب مبادرة جريئة من قِبل النظام (السُلطة) تحمل انفراجاً سياسياً وإصلاحات سياسية-ديمقراطية شاملة توحّد الشعب بكل فئاته ومكوناته الاجتماعية حول مشروع دولة مدنية ديمقراطية حديثة تتسع للجميع، وتنهي حالة الاحتقان السياسي-الاجتماعي المستمرة منذ سنوات، ثم تعيد الصراع السياسي إلى قنواته الطبيعية ضمن الأطر والقواعد الدستورية كي لا تستهلك الخلافات السياسية الداخلية جل طاقات المجتمع وجهود أفراده؛ فننسى التحديات والمخاطر الخارجية التي تهدد وجودنا جميعاً دولةً ونظاماً وشعباً في هذه المرحلة التاريخية الصعبة والمُعقّدة.