لمَ لن تحمل هزيمة «داعش» الاستقرار للعراق؟
على الحكومة العراقية أن تركز جهودها على المصالحة الوطنية الشاملة، التي تدفع بالأحزاب العراقية المختلفة إلى الاتفاق على قرار وطني واحد، ويجب أن تشمل هذه المصالحة مواجهة وتسوية تفاصيل شاملة بشأن مستقبل المناطق المحرَّرة أو المتنازع عليها بغية تفادي الصراعات المحتدمة في المستقبل.
يبقى تحدي العراق الأول التخلص من "داعش"، إلا أن هذه المعركة ستمهد لعدد كبير من الصراعات في المناطق المحررة، مثل سنجار وطوز خورماتو، إذا لم تتمكن الأحزاب المتنافسة من التوصل إلى إجماع بشأن وضعها المستقبلي.بدأت القوات التي ساهمت في تحرير المناطق، وخصوصاً البشمركة، والميليشيات الشيعية، وقوات الأقلية السنية، وغيرها بالتصارع في ما بينها لتحديد مَن سيسيطر على الأراضي.
وعندما حررت القوات الكردية والأيزيدية المحلية سنجار في 12 نوفمبر، اشتعلت الصراعات المسلحة والسياسية بين قوات حزب العمال الكردستاني والبشمركة التابعة للحكومة الإقليمية الكردية، حيث بدا هذا الصراع بسيطاً في البداية، إلا أن قوات الحكومة الكردية، وحزب العمال الكردساتني، والأيزيديين، وغيرهم سارعوا إلى رفع أعلامهم الخاصة فوق المباني الحكومية الكبيرة، لكن هذه الخطوة دفعت برئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني إلى الإعلان في 13 نوفمبر أن من الممكن رفع أعلام كردستان فحسب.في اليوم عينه، اتهم حيدر ششو، قائد قوات الحماية في سنجار، الأحزاب الكردية المشاركة في القتال ضد "داعش" بالترويج لمصالحها الخاص وتفضيلها على مصالح سنجار، وتعكس الخلافات الراهنة في سنجار الصراع الكردي الداخلي، فضلاً عن التأثير التركي في الوضع الكردي.ويتمتع الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة البرزاني، الذي يحظى بغالبية مقاعد الحكومة الإقليمية الكردستانية في برلمان كردستان العراق، بعلاقات جيدة مع حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، في حين أن حزب العمال الكردستاني يخوض صراعاً قديماً ودموياً مع الحكومة التركية في المناطق الكردية من تركيا وسورية، وفي هذه الأثناء يواصل الجيش التركي قصف مواقع حزب العمال الكردستاني من حين إلى آخر في تركيا وسورية والعراق، كذلك دعا البرزاني حزب العمال الكردستاني مراراً إلى نقل قواعدة من كردستان العراق لضمان سلامة المدنيين.يرتبط الصراع السياسي في العراق ارتباطاً وثيقاً بالمناطق المحيطة، وينطبق الأمر عينه على كردستان العراق، لذلك فإن بروز حزب العمال الكردستاني يشكل تحدياً للبرزاني في الداخل ولتركيا في الصراع التركي-الكردي.على جبهة أخرى، وقعت صدامات في 11 نوفمبر بين القوات الكردية وفصائل عدة من وحدات الحشد الشعبي الشيعية في طوز خورماتو في محافظة صلاح الدين، فتعرض مقاتلون من كلا الطرفين للخطف، والقتل، والجرح، وظل الوضع متوتراً، رغم وساطات أطراف عدة، بما فيها إيران والحكومة العراقية. وانعكست الخلافات الإقليمية مرة أخرى على الوضع الداخلي في طوز خورماتو، ففي 16 نوفمبر اتهم أرشد صالحي، رئيس الجبهة التركمانية، القوات الكردية بالسماح لحزب العمال الكردستاني بالبقاء في المدينة ذات الغالبية التركمانية، وقال إن هذا العمل سيؤدي إلى عواقب وخيمة.رغم ذلك، أعلن قائد حزب العمال الكردستاني سرحد عفريني أن الدولة التركية، التي تتعامل بعدائية مع هذا الحزب، تقف وراء هذه الاتهامات، وأضاف أن حزبه موجود في منطقة طوز خورماتو لحماية الناس، مهما كان انتماؤهم، من خطر "داعش"، وأكد أن حزبه لا يملك أي مشروع طائفي في مناطق وجوده.ستكون المشاكل في مرحلة ما بعد "داعش" أكثر تنوعاً وتعقيداً من محاربة "داعش" بحد ذاتها، ولا شك أن التوصل إلى الحلول سيكون أكثر صعوبة، فللأحزاب المعنية علاقات إقليمية متنوعة ومتضاربة، ويشمل هذا التنوع القوات الوطنية التي تملك طموحات انفصالية، مثل حزب العمال الكردستاني وإلى حد ما الحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة البرزاني، والقوات الدينية، مثل الميليشيات الشيعية، ومنها حزب الله وعصائب أهل الشام المتحالفان مع إيران، وعوامل محلية، مثل القوات القبلية بقيادة الشيخ أحمد أبو ريشا من محافظة الأنبار، التي تملك طموحات إقليمية لتحرير مناطقها.من الممكن إذاً أن الحرب الفعلية في العراق لم تبدأ بعد، فقد تسم لحظة إنزال الهزيمة بداعش بداية انهيار شامل للهوية العراقية، ويُعتبر هذا محتملاً لأن الكيانات السياسية، التي تشكلت عقب غزو العراق عام 2003 (مثل حزب الدعوة والمجلس الإسلامي الأعلى في العراق)، لم تنجح في بناء أسس الوحدة.وافقت الأحزاب المعنية على وضع خلافاتها المتراكمة وصراعاتها المتنامية جانباً كي تركز على محاربة "داعش"، ويؤدي هذا إلى تحديين: من جهة، تُعاود بعض الاختلافات بين المجموعات الظهور مع تحرير المناطق، ومن جهة أخرى تشكلت قوات سياسية وعسكرية جديدة لم تكن قائمة سابقاً أو لم تكن فاعلة بقدرة ما هي عليه اليوم، فقد تحولت ميليشيات شيعية عدة تقاتل "داعش" تحت راية وحدات الحشد الشعبي إلى قوة سياسية، بما أنها تسعى إلى المشاركة في الانتخابات، ولا تستطيع أي حكومة عراقية تجاهلها في المستقبل، وخصوصاً عند اتخاذ قرارات تتعلق بالمناطق المحررة، بالإضافة إلى ذلك صارت القوات الكردية الانفصالية أكثر قوة وصراحة في التعبير عن مشروعها الانفصالي، وشكلت بعض الأقليات قوات عسكرية لتدافع عن نفسها في الصراعات الراهنة والمستقبلية، ومن هذا المنطلق تكون العودة إلى الوضع الذي كان قائماً قبل "داعش" مستحيلة.يجب أن تركز الحكومة العراقية جهودها على المصالحة الوطنية المنطقية والشاملة، التي تدفع بالأحزاب العراقية المختلفة إلى الاتفاق على قرار وطني واحد، ويجب أن تشمل هذه المصالحة مواجهة وتسوية تفاصيل شاملة بشأن مستقبل المناطق المحرَّرة أو المتنازع عليها بغية تفادي الصراعات المحتدمة في المستقبل.علي المعموري