نعيم تلحوق: أكتب لأبحث عن نفسي لأكتشفها
نعيم تلحوق شاعر وكاتب وإعلامي ومؤسس جماعة شهرياد التي تعنى بالشعراء الشباب... في كل هذه المواقع تبقى شخصية نعيم تلحوق هي هي، شاعر جدلي، باحث مستمر عما هو وراء الشفق، وراء العالم الذي تراه العين، عن الذي يلمسه القلب. الغياب قضيته والحضور همه، في كتاباته صراع وتناغم في آن، وهذا ليس مستغرباً في قلم يغوص باستمرار في أسرار الكون، وتحمل كتاباته ابعاد اللحظة من دون أن يجملها، وتتكيَّف مع اللغة بغية إيصالها الى القارئ بأقل كلفة ممكنة، بعيدا عن {الحشو اللغوي» كما في ديوانه الأخير {فرس الكتاب} (دار غوايات للنشر)، وتزخر بأسئلة حول الوجود والحياة والمصير، والبداية والنهاية، والسقوط، والمصادفة، والرؤيا... كما في ديوانه { شهوة القيامة}.مع { شهوة القيامة} يكون الشاعر أنجز سلسلة العبارة الشعرية لمجلده الثاني، التي بدأها في 2001 بـ { أظنه وحدي} و{يغني بوحاً} و{يرقص كفرا} و{لأن جسدها} و{شهوة القيامة» و«هي وهو».
كان أنهى مجلده الأول عام 1985 بسلسلة {العبارة الشعرية} التي بدأت بـ { قيامة العدم} و{هي القصيدة الأخيرة} و{لكن ليس الآن} و{وطن الرماد} و{هو الأخير} و«هي وهو» . ترجمت قصائده إلى الألمانية، وشكلت محور أطروحات دكتوراه.حول نظرته إلى الشعر، وأبعاد اللغة، وفلسفته في الحياة التي عبر عنها في شعره وفي معظم كتاباته، ومفهومه للحداثة كان الحوار التالي معه.يتهم الشعر الحديث بأنه غامض. كيف يمكن تفسير هذا الامر؟ وهل هو بحاجة الى وضوح أكثر؟خصوصا انك استعرت في ديوانك «شهوة القيامة» مخيلةً جاهزةً واستقيت منها تراكيب وصوراً تنحاز إلى تدوير الموضوعات والتحايل عليها لتبدو غامضة، ملتبسة، تعطّل أي جهد تأويلي؟ربما المقصود هنا التعمية، أما الغموض الذي يقصده الشاعر الحديث من حيث الرؤيا في القصيدة فهو مشروع إله، لان الله لا يعرف الاّ متجسّداً لكن ليس له وجود في مكان ما، بغض النظر إذا كان الإنسان مؤمناً أم لا، لأنه سيلحظ في نهاية المطاف أنه في مكان خارج هذا الفضاء، والحداثة هي كل ما يشمل الأبداع سواء أكان قديماً ام حديثاً. واوروبا انتجت حداثتها بدفعها أثماناً باهظة وأقامت لغة جديدة.نحن العرب، نفرض المقدّس ولا نواجه السؤال عن الله والرسل، ويبدو العنصر الذكوري مسيطراً على حداثتنا، لاّن الله عندنا ذكر فالمرأة تابعة دائماً... بينما الغرب شدّد على أن الإنسان هو الذكر والانثى .هل وصلنا إلى حداثة فعلية؟حتى اليوم لم نصنع حداثتنا لأن لا حداثة مع التابو، ولا حداثة مع التقليد. نحن نستورد حداثتنا، إذاً نحن مستهلكون فحسب، وتراثنا مليء بومضات مضيئة وجميلة، فلم نحسن استغلاله على أحسن وجه، فضعنا في متاهة أن نكون البارحة أو أن نكون الغد !!! فرحنا في متاهة الحشو اللغوي بعيداً عن الإيجاز والدلالة على عمق الأشياء، أنا مع التفسير العقلي والمنطقي للأشياء المضمرة، أي أنا علمي في ابتكار مشكلتي وحلّها في آن واحد، الشعر هو في المضمر منه لا الواضح، كلُّ يقين هو خارج الوظيفة الدلالية للشعر، ومن هذا المفهوم أسعى لاستيلاد أفكار ومعانٍ جديدة، أنا مع الأسئلة في الشعر وإعمال العقل اللاواعي كما الرياضيات والعلوم في العقل الواعي ، وكلاهما علمٌ وكلاهما شعرٌ...ما الفرق بين القصيدة الكلاسيكية والقصيدة الحديثة؟القصيدة العمودّية تهتم بالرثاء والهجاء والمدح والفخر، {فتحيّيك حين ترحل، بينما القصيدة الحديثة تحيّيك وأنت حيّ ولا تنتظر رحيلك لترثيك ...» والصراع قائم بين الجديد والقديم والحداثة تكمن بينهما، وحتى الآن لم نصل الى مفهوم واضح للشعر، رغم أن محمد بن أحمد بن طباطبا العلوي قد اختصره بالقول «النثر شعرٌ معقود، والشعر نثرٌ محلول»، ونحن، حتى هذه اللحظة، نتصارع على جنس الملائكة من دون جدوى ... إذاً الجميل في الشعر حديثه، سواء كان قديماً أم جديداً، وإن الإختلاف هو في البنية لا الرؤيا، فهذا يحدد مساره بقوة المفردة وتوترها ولاغرضيتها، وذاك يحدد أصوله بفخامة المطالع وجزالة الألفاظ والوزن العروضي، رغم أن لكلِّ واحد إيقاعه الخاص به سواء كان هذا الإيقاع داخلياً أو خارجياً...هل استطاعت اللغة أن تحمل في طياتها الرمز الأسطوري؟الميثولوجيا شيء من ذاكرتنا، والغيب بمعناه التقليدي ليس الأسطورة فحسب، لأنها بالمعنى الآتي لا الماضي فحسب، أي أن استعين بأسطورة الماضي للوصول الى المستقبل من خلال الخيال، وأنا من القائلين إن الماضي كلّه اساطير مختلفة. والسيّاب وادونيس لجآ الى الاسطورة كي يذكراننا بتاريخنا وعمق تراثنا. ولا مانع من وجود الرمز في القصيدة النثرية مع دخول الفلسفة والصوفية إليها، طالما سمحنا للسرد والرواية أن يدخلا إلى الشعر، فلماذا لا تكون الفلسفة والتاريخ وسائر العلوم أيضاً وأيضاً؟؟كيف تعرّف الشعر في خضم التعريفات الملتهية بالشكل والمضمون؟لو كان باستطاعتي أن أفعل لكان سبقني الى ذلك المتنبي الذي أخفق هو أيضاً، واظن ان المتنبي أعظم شاعر حديث، ويمكنني أن استولد فكرة مفادها أن الشعر هو الله، لكنني لم استطع تعريف الله فكيف أعرّف الشعر؟ بمقدورنا أن نجد تعريفاً خاصاً بنا لمعرفة اللّه ومن ثمّ الشعر، ولقد اكتشفت أن الله هو اختراع الإنسانيّة، فكما اخترع الانسان إلهه هكذا نخترع تعريفاً للشعر. الشعر يبدأ حين ينتهي علم الرياضات، فالشعر يتعاطى مفهوم الجمال كما الفلسفة تتعاطى مفهوم السؤال... نيتشه قتل الله من أجل الإنسان الأسمى. فهل توافق على مقولة ان قتل الله هو أحد أسباب تقدم الغرب؟ طبعا لأننا بحسب مفهومنا الله المقدس حجبناه ووضعناه في إطار خاص بينما الغرب قتله بمعناه الذكوري، وبهذا المعنى تمكّن اينشتاين من أن يجد نظرية تقول إن كل شيء في هذا العالم نسبيّ نسبة الى الذات.دواوين ومنشوراتكيف دخلت إلى الأدب وماذا أضفت؟لم أدخل إلى الأدب أو الشعر من باب الصدفة، كنت أقرأ الفلسفة: وهي أدخلتني إلى الأدب، والفلسفة دفعتني إلى أن أجرّب نفسي دائماً في الأشياء وأطرح الاسئلة الوجودية، واطلقت شعاراً على احدى المجلات الفكرية التي كانت تصدر مجلة فكر، «إن الثابت الوحيد هو التطور» وهذا يعني ان الله ما زال يتمدّد. هل تنقح إحدى كتبك المنشورة؟نعم انقح فقط الأشياء التي خالفت فيها، هناك مخالفات أقمتها وأحدثتها في فترة ما في أول الثمانينات، فاذا أتيح لي العودة إلى هذه القصيدة أنقح فيها لافتراض أن مرحلة هذه القصيدة التي كتبت فيها على الصعيد اللّغوي اختلفت الآن، لأنني حاولت أن أخرج اللّغة عن طوعها، واتهمت أنني أضرب الّلغة حين خلت أن لغة العرب المنهزمة قد ولّت إلى غير رجعة، وقد جاءت الآن اللّغة المقاومة الوطنية اللبنانية. لكن شعرياً لا أغير شيئاً، فأنا ملتزم بكل ما قدمّت لأني أحرص دائماً على العناية بالأدب الذي كرسّت له خمسة وثلاثين عاماً، وأنا أنصح الجميع أن يبقي الأدب هواية له كي لا يفقد قيمته.هل الدواوين الشعريّة التي جسّدت عواصف وثورة وحزن وألم نعيم تلحوق لها جذور طفولية؟منذ صغري لم أطلب من أمي وأبي شيئا نحن ثلاثة شبان وفتاتان، فلا أجد ضيراً في أن اكون داخل ذاتي دائماً، فبحثت بلغة الصوت لكن بوحاً خفيّا إلى داخل الأشياء، إلى عمقها فكبرت قبل أواني مع قراءة الفلسفة التي انتج عنها طرح العديد من الاسئلة. فقرأت سقراط وافلاطون وأرسطو والفارابي وابن سينا والمعري، وكل ما أسس في ذاكرتنا وعياً جديداً، ثمّ اتجهت الى هيدغر وسارتر، وقد سمحت لي الفرصة بقراءة الشعراء والأدباء فأحببت ابن الرومي على المتنبي وطرفة بن العبد على ابي نواس، وخليل حاوي على نزار قباني...تساهم في خلق غطاء لغوي لتستير المعنى وتغليفه بإحكام، فمن أين تستقي مفراداتك وكيف تفّسر الحضور المتعالي للأنا في قصائدك كقولك «انا هو .../ المغني الوحيد، أبحث عن سر خلف السر .../ لأستنطق عدمي.../ فمن ياهو، يجافيه ندمي»..لكلِّ شاعر سرّه الدفين ، والذي به يخيط لعبة التشكيل الفني والصياغة اللغوية عنده، وقد يكون ما ترينه تستير المعنى هو قمَّة الإبلاغ الحركي للفكرة والمغزى في آن، فالمفردة هي نتاج وعي الأنا في ذاتها، وقد تجدين الأنا شبه حركة ظاهرية لتمثيل الفكرة الواعية ضمن لاوعينا الإرادي، وقد ينتج ذلك عن كثير من القراءات وفي شتى المجالات وأنواع الفنون، فإذا كنتُ المغني الوحيد الذي يبحث عن سر خلف السر، فذلك استلالٌ جماعي لفكرة جُسدت في مرمى الحدث اللغوي، وهذا قطعاً يعني – في ما يعني- تأطير المعنى ليصل إلى حركته المعلنة، فنحن خيال وجود لا معنى وجود، وهذا يدعوني إلى الدخول في تفاصيل مملّة لن أخاطر بإيجازها في هذه العجالة، والمشهد دائماً يقودنا إلى البحث عن هوية للنص بمقدار ما نبدع من وظيفته الدلالية، التي ترشدنا إلى إنتاج فهم جديد للعالم أو للفضاء الذي نتنفسه، وما نبحث عن أفكارنا داخله، فمن يتمكن من خلق عوالم حوله ليندم عليها بعد خلقها؟تظهر لغتك الشعريّة من زاوية معينة، وتربطها بطبيعة الإيدولوجيّة التي تعيشها، فتأتي القصيدة من باطنيّة فكريّة وعقائدية وصوفيّة مستترة وراء لغة الكلام المحكي، فتظهر قدرتك اللغويّة على التقاط صور المخيلة في طرح الرؤى والأفكار، فهل اللغة قادرة على ايصال كل ما يبغي الشاعر، وكيف تفسر لنا ازدواجية اللغة التي وقع فيها شعراء الحداثة؟لا أيديولوجيا في الشعر، فالشعر هو الأيديولوجيا بالنسبة إلى الشاعر والقارئ في آن، أنا أكتب لأنني أبحث عن نفسي لا لأنني اكتشفت نفسي، ويبقى أن كل واحد يحمل ما يفكّر به وما يعتقد، الأيديولوجيا مسألة شخصية لا علاقة للقارئ بها، وليس على الشاعر أو الكاتب - بشكل عام - أن يقدم ما يعتقد على الرؤيا الجمالية للنص الأدبي، الكاتب يغرف مما يقرأ ويبصر ليكتشف داخله، وهنا يكمن الموضوع الدلالي للنص، في الأدب يجب أن نعتبر كيف نقول لا ماذا نقول؟؟. فجمال اللغة غاب عن معظم شعرائنا، لأنهم وجدوا الابتذال اللغوي سهلاً ويقارب اليوميات بالنسبة إليهم، ليست اللغة سلعة للاستهلاك فحسب ، وإنما هي نمط حياة وأسلوب شخصي بل معنى حضاري لاكتشاف أنفسنا في العالم، والعالم الذي يدور حولنا...مواجهة العولمةتشرف على تنظيم مسابقات شعرية في المدارس اللبنانية لدى وزارة الثقافة، وتفتح الباب أمام الشبان والشابات إن عبر المسابقات أو عبر منبر «ليالي شهرياد» هل ما تقوم به عائد إلى ايمانك بقدرة الشعر على التغير؟ أو لأننا بحاجة الى مجلة شعر جديدة؟ نحن دائماً بحاجة إلى التغيير والتجديد والتطوير، ولا أحد بمقدوره أن يمتلك حقيقة الأشياء، لأن أموراً كثيرة نجهلها تعلمنا أكثر مما نعرف ... لذا راهنت في وزارة الثقافة على استعادة روح المغامرة التي عاشها جيلنا، ووجدت أن اللغة الغربية في ضياع وإلى اندثار.بعد هذا الإجتياح العولمي لشباننا وشاباتنا ومدارسنا وتكريس لغة كرشونية عبر وسائل الإتصالات المريعة التي طوّشت جيلاً بأكمله مما دفعه الواقع الإفتراضي إلى الكتابة بلغة الـ « إم إس إن»، والتويتر، والفايس بوك، لغة إنكليزية بلفظ عربي ومدغمة بأرقام لغة أخرى، هذا عدا إستخدام الرموز والإشارات المصاحبة للعصر ...هنا كان التصميم على إجراء مسابقة الشعر والقصة القصيرة لطلاب التعليم الثانوي والجامعي، وتنظيم الشباب بحلقات ومتابعتهم عبر مجموعات أدبية مبدعة ومساعدتهم على تجاوز ما عانيته أنا شخصياً في صراعي مع الحياة لتحقيق مشروعي الأدبي والشعري، فكما كانت مجلة «شعر» رائدة في التغيير على مستوى ترسيخ فكرة العالمية والتواصل مع الآخر المختلف، أردت أيضاً أن أقوم مع جامعة بون في ألمانيا إلى ترجمة عشرين شاعراً من الشباب اللبناني إلى اللغة الألمانية وبهدف تدريسها في الجامعة ... ليطلع الآخر على شبابنا وإبدعاتهم ، وسأدخل في مشاريع أخرى مع أسبانا وبلغاريا وإيطاليا للغرض نفسه، إيصال اللغة العربية إلى لغات العالم أجمع، فأنا مؤمن بالعالمية لا العولمة ، أي التعارف لا الاجتياح وعدم سيطرة لغة واحدة على العالم ...